web analytics

متعة الحياة دون دولة: الهنود الحمر

في أوائل التسعينيات، كان قادة العالم يحتفلون بسقوط الشيوعية إلى الأبد؛ فقد سقط جدار برلين وسقط الاتحاد السوفيتي، وبدا العالم وكأنه يعيش نهاية التاريخ، فلن يسود بعد الآن سوى عقيدة الليبرالية الجديدة، لكنّ شعبًا ضئيلًا من الهنود الحمر في جنوب المكسيك وعلى بعد مسافة قصيرة جدًا من حدود سيدة العالم الجديد؛ الولايات المتحدة الأمريكية، سيكون له رأيٌ آخر، وسيوجه صفعة قاسية لأحلام هؤلاء القادة حول نهاية التاريخ.

أغلب الحركات الثورية في العالم يتحرَّك خيالها في إطار كيفية السيطرة على جهاز الدولة، ومن ثم تطويعه لتحقيق مبادئ الثورة، لكن في التجربة التي سيعرضها هذا التقرير سنتحرك خارج الخيال، ونرى كيف عاش مجتمع من الثوار دون أن يحاولوا السيطرة على جهاز الدولة، أو حتى يقيموا جهازًا بديلًا له.

سيحاول هذا التقرير أن يذهب معك في رحلة إلى الفوضى، ليكون لك الحكم في الأخير، هل تستحق الفوضى أن نشجبها ونخشى منها بالفعل؟ وهل لا بد لأي ثورة كي تنجح أن تسيطر على دولة وتؤسس سلطة؟

الرد السريع 1994:

كانت المكسيك تواجه منذ بداية الثمانينيات أزمات اقتصادية عنيفة في أعقاب تحولها إلى تطبيق السياسات الليبرالية الاقتصادية، وفي مواجهة تلك الأزمات شرعت حكومة الرئيس الأسبق ساليناس دو جورتاري (1988-1994)، في خطة ليبرالية أكثر جذرية للتغلب على معدلات التضخم الكبيرة، ومن أجل استعادة النمو في أرقام الاقتصاد المكسيكي النهائية.

كانت الخطة الليبرالية للتكيف قد أدت إلى الشروع في برامج الخصخصة، وتقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي، وإعادة دمج البلاد بقوة في الاقتصاد الدولي عبر تحرير النظام التجاري، وذلك بإزالة معظم العوائق أمام الواردات الأجنبية، بالإضافة إلى توقيع العديد من اتفاقيات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة الأمريكية‏، وكان لتلك العمليات نفس التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تصاحبها في أي مكان تطبق فيه بالعالم، حيث لا يدفع ضريبتها إلا الأشد فقرًا من السكان، بحسب الكثير من المحللين.

على صعيد آخر بعد سقوط الدول التي كانت تسمى بالشيوعية، والتي لم تكن في نظر العديد من المحللين سوى وجه آخر للرأسمالية، كان العالم الرأسمالي يدشن بثبات سياسات العولمة، حيث حرية التنقل التامة للبضائع، وتقييد حرية الفقراء في الانتقال إلى الأماكن الأكثر ثراءً.

وبينما كانت اتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا (NAFTA)، وهي معاهدة لإنشاء منطقة تجارية حرة ما بين الولايات المتحدة، وكندا، والمكسيك؛ قد صارت سارية المفعول في يناير 1994، كان الهنود الحمر – السكان الأصليون – والذين يمثلون 10% من سكان البلاد، يعيشون تحت وطأة تاريخ ثقيل من الاضطهاد، فتلك الأراضي الزراعية التي يعملون فيها جيلًا بعد جيل، مثلهم مثل أقنان الأرض في عصر الإقطاع الأوروبي، كانت في يوم من الأيام قبل الغزو الاستعماري، ملكًا لأجدادهم ونُهبت منهم عنوة، منذ أكثر من 500 عام، وفي مواجهة ثقل الماضي، والخوف من المستقبل الذي لا يعد سوى باستمرار نفس الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي يتطور في سياقات استعمارية وإمبريالية، كان للهنود الحمر رد فعل غير متوقع إزاء إعلان نهاية التاريخ، وفي نفس شهر سريان مفعول NAFTA.

يعيش الفلاحون في المكسيك في الجزء الجنوبي من البلاد، وهم من سلالة السكان الأصليين (الهنود الحمر)، وبعيدًا عن أن الأرض التي يعملون فيها كانت في يوم من الأيام قبل الاستعمار ملكًا لأجدادهم، فإن المظالم قد تكثفت بشكل أكبر من ذلك بكثير عشية يناير 1994.

بعد الاعتماد على سياسات الليبرالية الجديدة، والخصخصة، وتقييد الإنفاق الحكومي على البرامج الاجتماعية والتصنيع، من أجل إنقاذ الاقتصاد المكسيكي الذي يعاني من الركود؛ جاءت بالفعل مليارات الدولارات إلى المكسيك، لكنها ذهبت إلى شراء أسهم في البنوك وفي الشركة القومية للتليفونات وعدد آخر من الشركات، بينما لم يدخل سوى سُبع (1/7( تلك الأموال في الاستثمارات المحلية.

وفي حين كان الفلاحون في القطاع الجنوبي من البلاد (الهنود الحمر)، يعيشون تحت وطأة الفقر الذي يزداد كل يوم، كان الرأسماليون المساهمون في قطاع الصناعات الزراعية يراكمون أرباحًا خيالية وتوسعًا كبيرًا في استثماراتهم.

وجدير بالذكر أن تلك الصناعة الزراعية التي دعمتها الحكومة بشدة عبر إعطائها التسهيلات من أجل استيراد المعدات المتطورة من الخارج، في نفس الوقت الذي تتوفر لها فيه إمكانية الاستفادة من رخص العمالة المكسيكية، كانت تلك الصناعة تقع غالبية ملكيتها في أيدي رأسماليين من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانت نسبة رأس المال الأمريكي في تلك الصناعة تصل إلى 55%.

لنا أن نتصور كون «تشياباس» الجنوبية (معقل ثورة الهنود الحمر)، كان يتواجد بها 87 ألف عامل ينتجون ثلاثة أخماس (3/5) ما تنتجه المكسيك من البن، ويعيشون في فقر مدقع، في حين كانت الأرباح الهائلة من تلك الصناعة تذهب في جيوب أثرياء الشمال الصناعي، وفي حين كانت نسبة 55% من احتياجات الطاقة التي تضخ المشاريع الرأسمالية المملوكة للأثرياء الأمريكان والمكسيكيين تأتي من هذا الإقليم، لم يحصل سوى ثلث (1/3) منازل هذا الإقليم على الكهرباء الكافية لإضاءتها.

الفلاحون يهزمون النظام العالمي الجديد

لم يصدق الهنود الحمر حلم العولمة مع بداية التسعينيات، فالماضي يخبرهم بأن هذا الحلم لم يكن أبدًا سوى كابوس لهم، فهم لم ينسوا أبدًا ما تسببت فيه حركة العولمة الأولى في العصور المبكرة للاستعمار، من إبادة أكثرهم وتحويلهم إلى عبيد في أراضيهم.

أدرك الفلاحون ببساطة أن العولمة الجديدة لن تنتج إلا عواقب مماثلة لما أنتجه الاستعمار؛ فلو كان من غير الممكن سجن الغالبية من البشر في العالم داخل أقبية فقيرة لن يكون هناك أي دافع لدى NIKE وGAP وغيرهما من الشركات الرأسمالية الكبرى كي ينقلوا إنتاجهم إلى تلك الأقبية ليشرعوا في استثمارات جديدة وينعموا بالعمالة الرخيصة المنهكة. فمشروع العولمة الجديدة الذي يشدد على حرية تنقل السلع ورؤوس الأموال هو نفسه الذي يحارب حرية انتقال البشر بين الحدود بشدة وينفق المليارات سنويًا كي يمنع تسلل ما يسميهم بالمهاجرين غير الشرعيين.

المشروع الليبرالي إذًا سينهار إذا تحقق حلم حرية انتقال البشر؛ لذا فإن ثورة الفلاحين من الهنود الحمر حدثت في توقيت مفاجئ للجميع، مثَّل ذروة الحديث عن استقبال العالم لعصر العولمة، وأنه سيتحول إلى قرية صغيرة، تسود فيها «الداروينية الاجتماعية» تحت مبدأ «البقاء للأقوى».

في يناير 1994، وبينما كانت الحكومة تحتفل باتفاقيةNAFTA ، وتقول للعالم أن المكسيك واحة من الاستقرار، وأفضل مكان لجذب الاستثمارات الأجنبية، وبينما كان الحزب الحاكم يستعد للانتخابات الرئاسية الجديدة في أغسطس من نفس العام، خرج جيش من الهنود الحمر الثوار عُرف باسم الزاباتيستا، واستطاع هذا الجيش أن يحتل ست مدن بولاية تشياباس، ويستولي على مبنى الإذاعة، ويشعل النيران في المباني الحكومية التي مثلت له رمز استبداد الحكومة المركزية النيوليبرالية، وهاجموا السجون وحرروا 176 معتقلًا، وحصَّنَ الفلاحون الثوار قراهم الفقيرة بالمتاريس.

ومنذ الانتفاضة وحتى الآن، ومع اختلاف تعامل الحكومة مع ملف الانتفاضة، بين القمع المباشر وقصف مجتمع الثوار أحيانًا، والتفاوض معهم وإخلاء الولاية من الجيش النظامي الحكومي في أحيان أخرى؛ ظل الهنود الحُمر محافظين على منطقة ثابتة من الحكم الذاتي في مرتفعات وأدغال تشياباس النائية.

وقد أعلن المتحدث الرسمي باسم الزاباتيستا والقائد العسكري «ماركوس»، الذي يُلقب نفسه بلقب «القائد الأدنى»، كنوع من السخرية من لقب القائد الأعلى الذي يطلقه زعماء العالم الثالث على أنفسهم، في وقت لاحق، أعلن: «الحرب العالمية الرابعة تُشَن حالياً من قبل الليبرالية الجديدة ضد الإنسانية في جميع الجبهات ومختلف المناطق، بما في ذلك جبال المكسيك الجنوبية الشرقية، ويجري ذلك نفسه في فلسطين والشيشان والبلقان والسودان وأفغانستان، بواسطة جيوش نظامية بدرجات متفاوتة. والليبرالية الجديدة هي التي تجلب التطرف، بواسطة نفس اليد، من هذا الفصيل أو ذاك إلى كل ركن من أركان هذا الكوكب. وهي التي توقع الضحايا في أمريكا اللاتينية، وأوروبا وآسيا وإفريقيا وأستراليا والشرق الأقصى، مع قنابل مالية تفتت دولًا كاملة. هذه الحرب التي تهدف إلى تدمير/ تهجير مناطق آهلة بالسكان، وتعيد تشكيل/ تنظيم مناطق جغرافية محلية وإقليمية، وتكوين خارطة عالمية جديدة بالدم والنار. وهي الحرب التي تترك في طريقها التوقيع الذي يُعَرّف عليها ألا وهو: الموت».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Ask AI to edit or generate...