web analytics

هل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخص غير سوي

رنُشرت ترجمة هذا المقال للمرَّة الأولى في موقع السوري الجديد، عن مجلة «Vanity Fair» الأمريكية. وينشرها ساسة بوست بموجب اتفاقٍ مع الموقع.

 

شبَّه «هنري كيسنجر»، مؤخّرًا، «فلاديمير بوتين» بأنّه «أحد شخصيّات دوستويفسكي» الأمر الذي راقَ للرئيس الروسي على ما يبدو. ذلك غير مستَغَرَبٍ تمامًا؛ إذْ ليسَ ثمّة كاتبٍ روسيّ يُجَسّدُ المشاعر الكثيرة المتناقضة، سواءً الثقافية أو الروحية أو الميتافيزيقية، ولا زال يجري في عروق روسيا – ما بعد الاتحاد السوفياتي؛ مثل «فيودور دوستويفسكي».

 

تفصيلِيًّا، يمكننا القول بأنَّ الفصل الرّاهن من التاريخ الروسي ابتدأ يوم عيد الميلاد من عام 1991؛ حينَ أعلن «ميخائيل جورباتشوف» وفاةَ الاتحاد السوفياتي، لكنّه في الواقع بَدَأ فِعليًّا في العام 1999؛ وذلك مع اندلاع حرب الشيشان الثانية، وصعود نجم فلاديمير بوتين، كما أنّه لم يحظَ بأي زخمٍ أو وعيٍّ ذاتيّ حتى شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2003؛ عندما أُلقِيَ القبض على «ميخائيل خودوركوفسكي»، رئيس شركة «يوكوس» النفطية، وذلك تحت تهديد السلاح على مدرجات أحد المطارات في نوفوسيبيرسك. كانت تلك هي اللحظة التي أشارت إلى إنهاء فلاديمير بوتين لمنظومة «بوريس يلتسين» ـ الرئيس المُستَضعَفُ من قِبَلِ جماعةٍ من الأرستقراطيين الروس أو الأوليغاركيّين الباحثين عن مصالحهم ـ وكذلك إلى إنهاء الدولة التي كانت خاملةً ومنقسِمةً ومُحطّمة، وإلى الشروع في إعادة هيبة الدولة وتأسيس نظامها الجديد. منذ ذلك الوقت كان السؤال المهيمن على كافة المناقشات الجارية بشأن روسيا في الخارج هو: إلى أين يمضي بوتين بالبلاد؟ ما الذي يريده؟

 

حين يحاول الأمريكيون شرحَ أيّ أمرٍ يعتقدونه سيئًا في روسيا الحديثة، فإنّهم حتمًا ينحون باللائمة على الاتحاد السوفياتي، ويقولون بأنّ الروس افتقدوا الثياب اللمّاعة طويلًا، لذا فإنهم يحبّونها، أو أنَّ الروس لا يبتسمون؛ لأنّ من ينشأ في ظل الاتحاد السوفياتي لن يعرف الابتسامة أبدًا. وهكذا دواليك. ذلك يجعلنا نشعرُ بالرضى عن أنفسنا، فقد كنّا في الجانب الصحيح من التاريخ، إلاّ أنَّ ذلك غير صحيح أيضًا. الانقلاب الكبير والتغيّر الهائل الذي حصل، إنّما سبَقَ بكثير صعود الاتحاد السوفياتي وأفوله. لقد كان بطرس الأكبر في نهاية القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، وهو الذي مثَّلَ ما يشبه قولَ بوشكين «إيجادُ نافذة» على أوروبا. فذلك السجود للغرب ـ وإعادة تنظيم الجيش، وفرض معايير سلوكية جديدة على الأرستقراطيين، ولبرَلةُ الجامعات ـ ربّما كانت جميعها إجراءات صحيحة، غيرَ أنّها كانت وحشيةً ودمويةً أيضًا، كما ولَّدَت أزمة ثقة وخلقت تساؤلاتٍ وتناقضات لم تُعهَد من قبل حول ما الذي على روسيا أن تكون عليه.

 

طيلَةَ القرون الثلاثة اللاحقة، حيَّرَ ذلك التساؤل السلافيين (أولئك الذين آمنوا بالخير المتأصل في روسيا القديمة) وأولئك المتغرِّبين الذين أرادوا تحويل روسيا إلى إمبراطورية أوروبية ليبرالية أقلّ انعزالًا وأكثر عِلمانية. افتقدت روسيا لهوية محددة بشكل واضح؛ إذْ كانت دومًا على الحدّ الفاصل بين ذاتِها الشرقية وتلك الغربية، في حالةٍ من التشعُّب والتشتّت، حائرةً في هويتها التي يفترَضُ أن تكون. وفي أواخر القرن التاسع عشر، وفي أعقاب اندلاع الثورات في فرنسا والنمسا وفي الإمارات الإيطالية والألمانية، وبعد صدور البيان الشيوعي لماركس، ازدادت تلك الحيرة (المعركة). تفتَّحَ وعيٌ راديكالي جُلِبَ من أوروبا، بيدَ أنّه في روسيا، كما هو الحال دائمًا، اكتسب ضَراوةً جديدة. مسخت الرغبة بالإصلاح المهذّب والتدريجي إلى عدميّةٍ عُنفيّة. لم يعُد التغيير كافيًا، أيًّا كان معناه المقصود. كان الخيار الوحيد المتبقي هو نسفُ كلّ شيء والبدء من جديد.

 

عبّرَ دويستوفسكي، الذي سافر إلى معظم أرجاء أوروبا، ولكنّه بقي شاكًا إزاءها، عن ازدرائه للثوريّين ولثورتهم المنشودة. وقد أمضى ستينات وسبعينات القرن الثامن عشر متوجّسًا من مواجهة روسيا المرتقبة مع نفسها. ولم تكن أعماله الأربعة الأكثر أهمية (الجريمة والعقاب، والأبله، والشياطين والأخوة كارامازوف) مُجرّدَ روايات، بل كانت تحذيرات «دويستوفيّة» بشأن ما يمكن أن يحصل إذا لم ترتدّ روسيا إلى أصولها ما قبل البطرسيّة.

 

رأى دويستوفسكي أنَّ روسيا ماضية في تدمير نفسها، وبدعمٍ غربي، سواء كان هذا الدعم مُعلَنًا أو مخفيًّا. يتجلّى تعبيره عن هذا التدمير الذاتي بشكلٍ واضح في الأخوة «كارامازوف»، تدور أحداث الرواية، وهي أطول روايةٍ بوليسيةٍ كُتِبَت على الإطلاق، حول مقتل فيودور بافلوفيتش كارامازوف. تُوجّهُ التهمة بجريمة القتل لأحد أبناء كارامازوف الثلاثة الشرعيين وهو «ميتيا» ويُدان بذلك، لكنّ القاتل الحقيقي هو الولد الحرام، والمختل عقليًّا لكارامازوف، ويدعى «سميردياكوف»، كما أنّ القاتل الحقيقي الذي يقف وراء سميردياكوف (المدبّر أو zakashik) هو «إيفان»، الابن الأكثر نجاحًا وغَربَنَةً لكارامازوف. لقد كان إيفان بأفكاره الغربية العصريّة هو مَن فرّقَ شمل عائلته (العائلة هي روسيا مَجازًا)، وسيكون «لويشا»، آخر من تبقى من الأبناء الشرعيين لكارامازوف، هو الذي سيعيدُ بناءها. وليس من قبيل المصادفة أنّ يكون ذلك الشخص هو لويشا، أصغر الأبناء وأكثرهم تديّنًا وإنكارًا للذات. بالنسبة للروسّ السوبورنستيين القدماء، وهم طائفة روحيّة ترى فيهم المخيّلة الروسيّة أشخاصًا حفظوا وحدة روسيا وتماسكها، فإنّ المستقبل كالماضي. تلك هي روسيا البوتينية، بعد كل تلك السنين.

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
Ask AI to edit or generate...