«فورين بوليسي» تطالي الولايات المتحدة بالكف عن العبث بأمن الشرق الأوسط
هل تعرف ما الذي يجب أن تفعله الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟ الجواب على هذا السؤال كان دوما ما يكون واضحا، ولكن ليس بعد الآن. على مدار أكثر من نصف قرن، كان القادة الأمريكيون قادرين على تحديد أصدقائهم وأعدائهم وقد كانوا يملكون رؤى واضحة بخصوص ما يسعون إلى تحقيقه. اليوم، لم يعد الأمر كذلك. هناك مزيد من عدم اليقين حول مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ما يدفع إلى التساؤل حول مدى جدوى الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لشركائها التقليديين، في ظل غياب أي إجماع حول كيفية التعامل مع مجموعة مذهلة من الجهات والقوى التي تعصف الآن بالمنطقة.
هناك شيء واحد واضح الآن، قواعد اللعبة التي اعتاد الأمريكيون على ممارستها منذ الأربعينيات لم تعد تصلح الآن. لا تزال الولايات المتحدة تظن أن الشرق الأوسط لا يزال بالإمكان إدارته عبر تملق الحكام المستبدين وتقديم الدعم غير المحدود لـ(إسرائيل) والحديث المستمر حول الحاجة إلى قيادة أمريكية. وعندما يفشل كل شيء الآخر، يتم توجيه بعض الضربات. ولكن هذا النهج من الواضح أنه لم يعد يعمل الآن، وأن المبادئ التي شكلت سياسة الولايات المتحدة في الماضي لم تعد بذات الجدوى.
كانت الأمور أكثر بساطة، ونحن لا نقول ذلك على سبيل النوستالجيا. خلال الحرب الباردة، على سبيل المثال، كانت العناصر الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط معقولة إلى حد كبير. أولا وقبل كل شيء، سعت الولايات المتحدة لاحتواء والحد من النفوذ السوفييتي في المنطقة. كانت الولايات المتحدة تهدف أيضا إلى ضمان استمرار تدفق النفط والغاز من الشرق الأوسط إلى الأسواق العالمية وأن (إسرائيل) سوف تبقى على قيد الحياة. على الرغم أن تلك العلاقات الخاصة الموجودة الآن لم تبدأ في الظهور حتى أواخر الستينيات.
لتحقيق هذه الأهداف، فإن الولايات المتحدة قد تصرفت خلال الفترة بين عامي (1945 – 1990) باعتبارها موازن قوى خارجي. وفي تناقض حاد مع الانتشار العسكري في أوروبا أو آسيا، فإن واشنطن لم ترسل قوات كبيرة إلى منطقة الشرق الأوسط وآثرت إبقاء بصمتها العسكرية منخفضة إلى حد ما مفضلة الاعتماد على مجموعة متنوعة من الحلفاء المحليين والعملاء. على وجه الخصوص، قدمت الولايات المتحدة الدعم إلى الممالك العربية المحافظة مثل المملكة العربية السعودية والأردن وسائر دول الخليج، وقد احتفظت بعلاقة وثيقة مع إيران حتى قيام الثورة الإسلامية عام 1979. وقد تم النظر إلى (إسرائيل) باعتبارها حليف استراتيجي وربما يرجع ذلك إلى قدرتها على هزيمة حلفاء السوفييت من العرب. في الواقع، فإن سلسلة من الهزائم إضافة إلى ارتفاع المشاكل الاقتصادية قد أقنعت في نهاية المطاف الرئيس المصري «أنور السادات» بالتخلي عن عائله السوفييتي وإعادة ترتيب أوراقه مع واشنطن. كما لعبت الولايات المتحدة لعبة ميزان القوى في الخليج: مال كل من «رونالد ريجان» و«بوش» إلى صف العراق خلال حرب السنوات الثمانية مع إيران ثم تحول «بوش» ضد العراق حين قام بغزو الكويت خلال عام 1990.
عندما انتهت الحرب الباردة، فإنه كان بإمكان المرء أن يتوقع أن تدخل الولايات المتحدة في المنطقة سوف ينخفض، لأنه لم يكن هناك تهديدا خارجيا يلزم احتواؤه بعد الآن. ولكن بدلا من ذلك، تعمق دور الولايات المتحدة، بدءا من حرب الخليج عام 1991. بدلا من النهج السابق بالعمل كموازن خارجي للقوى، فقد انتهجت إدارة «كلينتون» استراتجية الاحتواء المزدوج، بحيث تلعب واشنطن دور الشرطي الإقليمي. للأسف، فقد تطلبت هذه الاستراتيجية الحفاظ على قوات برية وجوية أمريكية كبيرة على الأراضي السعودية، مما أثار غضب «أسامة بن لادن»، ودفعه لمهاجمة الولايات المتحدة بشكل مباشر في هجمات 11 سبتمبر/أيلول.
زاد الدور العسكري الأمريكي بشكل واضح بعد هجمات سبتمبر/أيلول، بعد أن شرب «جورج دبليو بوش» و«ديك تشيني» والمحافظون الجدد كأس النشوة وشرعوا في جهودهم الوهمية في التحول الإقليمي. وقد كانت النتائج كارثية. وتم انتخاب «باراك أوباما» بعد وعوده بإنهاء الحرب في العراق وإعادة بناء علاقات أمريكا مع العالم الإسلامي، وتحقيق حل الدولتين، ووضع علاقات الولايات المتحدة مع إيران على أساس جديد. و على الرغم من أن وصل في نهاية المطاف الى اتفاق نووي مع إيران، فلم تكن بقية سياساته في الشرق الأوسط أكثر نجاحا من سلفه. سوريا الآن في حالة خراب تام، بينما لا يزال تنظيم القاعدة يشكل قوة فاعلة، في حين تزرع «الدولة الإسلامية» العنف في جميع أنحاء العالم. وقد تمزقت ليبيا واليمن في حروب فاشلة وصارت عملية السلام في حالة يرثى لها.
تغييرات هائلة
لماذا تواجه الولايات المتحدة مثل هذه المشاكل؟ يرجع ذلك بشكل رئيسي إلى كونها فشلت في أن تأخذ في الاعتبار التغييرات الهائلة التي حولت المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط.
في البداية، يمكن بسهولة أن نلمس أنه لا توجد قوة عالمية منافسة لتنظيم استراتيجية الولايات المتحدة. احتواء النفوذ السوفيتي كان الهدف الرئيسي خلال الحرب الباردة، وقد سهل هذه الهدف الواضح عملية تحديد الأولويات وصناعة مجموعة من السياسات المتسقة. اليوم، على النقيض من ذلك، فإنه لا يوجد خطر شامل، وبالتالي لا يوجد مبدأ تنظيمي واضح لتوجيه صناع القرار في الولايات المتحدة. يرغب البعض في تحميل إيران مسؤولية لعب هذا الدور، ولكن كعنصر فاعل، فإنها لا تزال ضعيفة للغاية وعاجزة داخليا كي تكون بمثابة محور تنظيم استراتيجية الولايات المتحدة.
إضافة إلى أنه، وفيما يتعلق ببعض القضايا مثل محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، فإن كل من الولايات المتحدة وإيران تقفان على نفس الجانب. باختصار، ما نقوم بمواجهته اليوم هي مجموعة معقدة من الجهات الفاعلة لتي تحمل مجموعة متنوعة من الأهداف، إلى درجة أن بعض هؤلاء الفاعلين قد يعمل في صالحك في قضية بينما يعمل ضدك في قضية أخرى.
ثانيا، فإن علاقات الولايات المتحدة مع كل من الحلفاء التقليديين في الشرق الأوسط هي في أدنى مستوياتها منذ سنوات. جنحت تركيا بشكل ما نحو السلطوية خلال حكم الرئيس «رجب طيب أردوغان» وحزب العدالة والتنمية، في الوقت الذي تبدو فيه سياستها تجاه الأزمة السورية وتنظيم «الدولة الإسلامية» تتعارض في أحيان كثيرة مع تفضيلات الولايات المتحدة. (إسرائيل) بدورها تواصل التحرك نحو اليمين في حين لا تزال ترفض حل الدولتين الذي تفضله واشنطن، وتسعى بنشاط إلى تخريب الاتفاق النووي مع إيران.
وقد سقطت مصر مرة أخرى في أيدي ديكتاتورية عسكرية بينما توترت علاقات الولايات المتحدة مع المملكة العربة السعودية بفعل انفراج نسبي في علاقاتها مع طهران، والخلافات حول النهج السليم في الحرب الأهلية السورية وتزايد المخاوف من قيام المملكة العربية السعودية بتعزيز النسخة الإسلامية التي ألهمت جيلا من المتطرفين المعادين للغرب. لا تزال وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تحافظ على علاقاتها مع المخابرات السعودية، رغم ني لست متأكدا إن كان ذلك يمثل أمرا جيدا أم لا.
لكن، في الوقت نفسه، تحسنت العلاقات بين واشنطن وإيران. ليس كثيرا بطبيعة الحال، ولكن على الأقل فإن حكومتي البلدين يتحدثان الآن إلى بعضهما البعض. الاتفاق النووي هو الدليل الأكثر أهمية على التغيير، ولكن الحل السريع لأزمة البحارة الأمريكيين الذين دخلوا بطريق الخطأ إلى المياه الإقليمية الإيرانية والحديث حول تبادر الأسرى اللاحق تبدو أمورا واعدة أيضا. هذه الخطوات الأولية قد لا تؤدي إلى ما هو أكثر منها، ولكنها، رغم ذلك، لا تزال تمثل تحولا ملحوظا يثير تساؤلات جديدة حول ما ينبغي أن تكون سياسة الولايات المتحدة.
ثالثا، فإن هناك الانهيار المذهل في أسعار الطاقة واحتمال وجود تخمة النفط لفترة طويلة وهو ما يلقي بظلال من الشك على الأساس المنطقي الاستراتيجي الذي استند إليه تورط الولايات المتحدة في المنطقة منذ عام 1945.
الولايات المتحدة لم تعد تستورد كميات كبيرة من النفط أو الغاز من دول الشرق الأوسط. لذا فإن خطر قطع الإمدادات هو أقل كثيرا من أي لحظة كان عليها خلال الذاكرة الحديثة. إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على نحو متزايد على الاستقلال في مجال الطاقة (في الوقت الذي تبحث خلاله عن سبل للحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري على المدى الطويل)، فإنه ليس من الواضح لم تستمر في إنفاق المليارات في للدفاع عن إمدادات الطاقة في الشرق الأوسط نيابة عن بلدان أخرى.
رابعا: فإن سجل الولايات المتحدة في المنطقة، وعلى مدار أكثر من 20 عاما الماضية، يثير تساؤلات خطيرة حول قدرتها على تحديد أهداف واقعية ومن ثم تحقيقها. يعتمد التأثير العالمي في جزء منه على صورة الكفاءة، في حين أن الإدارات الثلاث الماضية لم تفعل شيئا من أجل تحسين تلك الصورة. في الواقع، عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، فإن إدارات «كلينتون» و«بوش» و«أوباما» جميعها كانت تلعب دور الملك «ميداس»، ولكن بدلا من أن يتحول كل شيء تلمسه إلى ذهب فإنه يتحول إلى رصاص، أو أسوأ من ذلك إلى حرائق عنيفة.
سجل من الفشل
لفهم الأمور بشكل أوضح، يمكننا إلقاء نظرة على هذا السجل. أولا: أسهمت سياسة الاحتواء المزدوج في الخليج في إقناع «بن لادن» بتنفيذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول. ثانيا: خلال عقدين من الإشراف الأمريكي على عملية السلام بين فلسطين و(إسرائيل)، فقد تم قتل حل الدولتين الذي طالما كانت واشنطن تفضله. ثالثا: كان الغزو الأمريكي للعراق خطئا سياسيا له تدعيات واسعة لا تزال تستمر في التضاعف. رابعا: ساعد التدخل الأمريكي في كل من ليبيا والصومال واليمن في خلق دول فاشلة في هذه الأماكن. خامسا: فإن الولايات المتحدة لم تحقق شيئا يذكر في سوريا أيضا. وبالنظر إلى هذا السجل القياسي، فإنه لا يبدو من المستغرب أن الأميركيين والشرق أوسطيين ينظرون بتشكك إلى الدور الأمريكي، ويرون تفكير الولايات المتحدة بعد ذلك في قدرتها على إدارة الشرق الأوسط هو درب من السذاجة.
وأخيرا، فمن الصعب معرفة ما ينبغي أن يكون عليه شكل دور الولايات المتحدة، نظرا لكون أدوات السياسية التي اعتادت واشنطن إجادتها قد صارت غير مجدية فيما يتعلق بالمشاكل التي تهز المنطقة الآن. الأداة الأكثر قابلية للاستعمال في الولايات المتحدة هي جيشها القوي، بما في ذلك المساعدات اللوجستية والتدريب والغارات الجوية، وفرق العمل البحرية والطائرات بدون طيار وقوات العمليات الخاصة، أو في الحالات القصوى، فرق الانتشار السريع الكاملة. لسوء الحظ، فإن المشكلة الأساسية التي تواجه معظم دول الشرق الأوسط ليست جيشا تقليديا قويا (وهو نوع العدو الذي نبرع في هزيمته) ولكن عدم وجود مؤسسات شرعية وفعالة للحكم المحلي. ما رأينا في العراق وأفغانستان، فإن الجيش الأمريكي لا يؤدي بشكل جيد في إنشاء مؤسسات سياسية محلية. وكلما زاد استخدامنا لهذه الأداة، كلما أصبحت السياسة المحلية أكثر هشاشة، وأكثر عندا وعنفا أيضا.
يبدو الأمر واعدا، أليس كذلك؟ يشهد الشرق الأوسط تحولا أمام أعيننا، في حين لم تعد تنطبق عليه الحقائق القديمة للسياسة الأمريكية. أقوى أدوات النفوذ لدينا لم تعد ذات قيمة تذكر، في حين أن مصالحنا الاستراتيجية في المنطقة آخذة في الانخفاض. كما أن أيا من حلفائنا الحاليين هناك لا يستحق دعما غير مشروط لأسباب أخلاقية أيضا.
ربما تعتقد أن هذا الوضع يثير نقاشا حيويا حول استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة، وأن الانتخابات القادمة هذا العام توفر فرصة مثالية لذلك. ولكن إذا كان للتاريخ أن يخبرنا بشيء، فإننا نعلم أن آخر شيء يمكن أن نراه في هذه الانتخابات هو مناقشة جادة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. بدلا من ذلك، فإن المرشحين سوف يظلون يؤكدون على أهمية وجود قيادة أمريكية قوية (أيا كان ما يعنيه ذلك) كما سيتنافسون في التفوق على بعضهم البعض في إعلان حبهم العميق لـ(إسرائيل) وإحداث المزيد من الصخب حول التهديد من قبل «الدولة الإسلامية.» وللأسف، فإن أيا منهم حين يعتلي منصبه في يناير/كانون الثاني عام 2017، لن يكون لديه أي فكرة حول ما ينبغي عمله في هذا الجزء من العالم.
حسنا، إليك هذا التفكير الراديكالي: إذا كانت الأهمية الاستراتيجية للمنطقة آخذة في الانخفاض، وإذا كان أي من الجهات الفاعلة المحلية لا تستحق الدعم الأمريكي الصريح، وإذا كانت جهودنا كفيلة بإغضاب أصدقائنا وأعدائنا على حد سواء، فربما يجب على الولايات المتحدة أن تتوقف عن محاولة إصلاح المشاكل التي ليس لديها حكمة ولا إرادة لمعالجتها. في نهاية المطاف، فإن مصير الشرق الأوسط سوف يتم تحديده من قبل أولئك الذين يعيشون هناك وليس من قبلنا، على الرغم من أننا قد نكون قادرين على لعب دور بناء في بعض الأحيان. كلما اعترف الأمريكيون بشكل مبكر أنه من الأفضل لهم لعب دور المدرب من على مقاعد البدلاء، بدلا من نزيف الدماء على أرض الملعب، كلما كان ذلك أفضل حالا.