الدور السياسى للبطاطس
باتت إعلانات البطاطس تقود القوة الناعمة فى مصر، فالثقافة والإعلام والفنون أصبحت ترضخ تحت وطأة شركات البطاطس والاتصالات والمياه الغازية، وحفنة من مساحيق الغسيل!
(1) انطلق الإعلام المصرى فى الآونة الأخيرة يهدم كل ما هو جادّ ومحترم ورصين، وبات يركض وراء كل ما هو هزلى ومثير وغريب.
وأصبحت المقولة السائدة، هذا هو ما يحقق المشاهدة، هذا هو ما يأتى بالإعلان!
والمدهش أنه رغم الهبوط المستمر نحو الهاوية الفكرية والأخلاقية، فإن ذلك لم يحقق انتعاشاً مادياً كبيراً، أو فائضاً مالياً مريحاً، بل إن معظم محطات التليفزيون المصرية، ومعظم الصحف تواجه أزمة مالية عاصفة.
كل محطات التليفزيون المصرية قد تتوقف عام 2017، ذلك أن الأزمة الماثلة فى نضوب الميزانيات باتت تتبدى كل صباح.. فى أزمة الرواتب التى يعانى منها الجميع، وأزمة تسريح العمالة وإغلاق برامج ومحطات تتوالى أنباؤها دون انقطاع.
(2) لا أعرف أين هى الدولة مما يجرى؟ هل تعتبر الدولة أن الإعلام المصرى هو عدد من أكشاك السجائر، لا يهم إذا ما أُغلق بعضها أو أُغلِقت جميعها؟
هل تعتبر الدولة أنه طالما كانت الأزمة تخص الإعلام الخاص، فإنه لا دخل لها بالأمر؟ أم أنها تعتبر أن الإعلام لا حاجة له اليوم، وفى حال الاحتياج له غداً، لكل حادث حديث؟
إنه لمن المؤسف أن تكون إجابة أى سؤال مما سبق بـ«نعم». وإنه لمن العار أن نترك الإعلام فريسة مساحيق الغسيل، فترعى من تشاء وتترك من تشاء!
(3) إن دولاً عديدة فى أوروبا تمنع الإعلانات التجارية فى التليفزيون الحكومى، وهى دول يتمتع فيها التليفزيون الحكومى بمكانة كبيرة، وسواء كانت الحكومة تمتلك بشكل مباشر، أو أنها تمتلك عبر البرلمان أو وزارة الخارجية أو مجلس للإعلام، الحقيقة فى النهاية أن الدولة هى التى تملك، وأن الحكومة هى التى توجِّه. تدرك هذه الدول تماماً أنه لا يمكن أن تترك أمور التنشئة والتربية والثقافة فى أيدى مندوبى مبيعات، ومندوبى إعلانات. لا يهمهم إلا نصيبهم فى كل عقد، وحصتهم من كل اتفاق.
ثمة مساحات بالضرورة للإعلام التجارى، والإعلام الرخيص.. وثمة مساحات للإعلام المنفلت والإعلام الأصفر، لكن ما يحكم المجتمع الحديث هو العقل الحديث.
(4) إن القوى الناعمة المصرية تتهاوى واحدة تلو الأخرى، من السينما إلى المسرح، ومن الصحف إلى التليفزيون. كل ركائز القوة الناعمة فى خطر.
لم يعد نجوم مصر الجدد هم نجوم العالم العربى.. كما كان نجوم مصر القدامى. لم تعد اللهجة المصرية بالسطوة التى كانت عليها فيما سبق.
وحين أجوب العواصم العربية ألاحظ ذلك الفرق الهائل بين معرفة الشارع العربى بنجوم مصر الكبار، وعدم معرفتهم بنجومها الجدد.
كما أن المثقفين والأخلاقيين العرب باتوا يرون فى القوة الناعمة المصرية مصدر قلق وخطر على مجتمعاتهم.. ذلك أن معظم الناتج الإجمالى للسينما والدراما فى مصر أصبح يتكون من الجنس والدماء، كما أنه لا تكاد تمرّ دقائق من أى عمل فنى دون مشهد للتدخين أو آخر للمخدرات.
ما الذى يمكن أن نقدمه للعالم العربى الذى نتطلّع لقيادته نحو الأفضل، إذا ما كان هذا هو ما نقدمه لأنفسنا ولبلادنا؟!
(5) إننا أمام دائرة سوداء مفرغة تُغذى بعضها بعضاً. قوى ناعمة تحولت إلى قوى سفيهة من أجل الإعلان، وإعلان سفيه بات حليفاً للقوى السفيهة ضد القوى الناعمة.
إثارة تجتذب الإعلان، وإعلان يبحث عن الإثارة، ودولة تائهة بين تحالفات رخيصة.
(6) إن إعلانات كل وسائل الإعلام فى مصر لا تزيد على ثمن طائرتين «F35»، وأقل من نصف ثمن غواصة واحدة من طراز دولفين!
ويخطئ الذين يتصورون أن حماية الأمن القومى إنما تنصرف إلى حماية سماء مصر من قصف العدو، ذلك أن قصف العدو الداخلى أقوى وأشد.
إن القصف الإعلانى والإعلامى للقوى الناعمة.. هو خطر جسيم على الأمن القومى، وإن خطره ليمتدّ من مصر إلى المحيط العربى، ومن الذين لم يولدوا بعد إلى الذين سيحلّون مواطنين فى شعبنا، ليجدوا مستقبلاً ركيكاً وثقافة بليدة.
إن سيطرة شرائح البطاطس ومساحيق الغسيل على خريطة القوة الناعمة فى مصر أمر مروّع، ومن البؤس الشديد أن يتراجع الساسة والمفكرون، وأن يتوارى الأدباء والعلماء، وأن ينتهى الفلاسفة والمبدعون أمام «رنّات الموبايل»، وفوران المياه الغازية وشرائح البطاطس.
إن حرب البطاطس هى الوجه الآخر للإرهاب.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر