الغنوشي يستميت في مسعاه لقطع طريق الحكومة أمام اليسار

1

قرر رئيس حركة النهضة الإخوانية راشد الغنوشي أن يقود بنفسه جهودا سياسية وإعلامية تهدف إلى الضغط على رئيس الحكومة المكلف الحبيب الصيد من أجل تشكيل “حكومة مخاصصة حزبية”، متحديا اجماع القوى الديمقراطية على تشكيل حكومة ائتلاف ديمقراطية تكون بعيدة كل البعد عن المنطق الغنائمي الذي تدفع باتجاهه الحركة الإسلامية وذلك في مسعى لقطع الطريق أمام تواجد اليسار في تركيبة الحكومة.

بعد أن دفع الغنوشي بعدد من قيادات الصقور مثل علي لعريض وعبد اللطيف المكي للترويج بأن الحبيب الصيد “عرض عليهم تلميحا المشاركة في الحكومة” لإيهام الرأي العام بأن “النهضة لازالت رقما صعبا في المعادلة السياسية ولها ثقلها وموقعها في الخارطة السياسية التي أفرزتها نتائج الانتخابات البرلمانية”، خرج الغنوشي عن “صمته” ليصرح بأنه تلقى “إشارات من الصيد تتعلق بمشاركة النهضة في الحكومة التي يتطلع التونسيون إلى أن تقطع نهائيا مع تجربة حكم الترويكا الفاشلة.

وجاءت هذه التصريحات متناقضة تماما مع توجه الأحزاب الديمقراطية بما فيها نداء تونس الذي أعلن في أكثر من مناسبة أن حكومة الصيد ستكون ممثلة للقوى الديمقراطية وبعيدة عن أية محاصصة حزبية لتمسح من أذهان التونسيين مخلفات فشل حركة النهضة التي حكمت البلاد بعقلية حزبية احتكارية خلال عامي 2012 و2013 .

ومع تقدم المشاورات التي يجريها بطريقة مكثفة الصيد مع الأحزاب اللبيرالية واليسارية وخاصة الائتلاف الحزبي اليساري الجبهة الشعبية التي يتزعمها عدو النهضة الشرس حمة الهمامي، بدت تصريحات الغنوشي “استفزازية” و”متشنجة” لا تخلو من “الابتزاز السياسي”.

وانتهج رئيس النهضة خطابا تصعيديا يستبطن نوعا من المزايدات حتى أنه اعتبر أن “حكومة الصيد دون النهضة ستكون ضعيفة” و”يجب أن تكون قاعدتها الانتخابية واسعة”.

وأرجع سياسيون محاولات الغنوشي التشويش على جهود الصيد إلى أن النهضة تسعى إلى قطع الطريق أمام الجبهة الشعبية في الحكومة القادمة، باعتبارها تيارا يساريا يصل الحكم لأول مرة في تاريخ تونس ويعارض معارضة مطلقة مشروع حركة النهضة الذي رفضه التونسيون خلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية ومنيت فيه الحركة بعقاب شعبي لم تكن تتوقعه جراء سياساتها الفاشلة التي زجت بالبلاد في أزمة كادت تعصف بمؤسسات الدولة وبمسار الانتقال الديمقراطي وباستقرار المجتمع.

وكانت الجبهة الشعبية أكدت أنها لن تشارك في حكومة الصيد إذا ما تم إشراك حركة النهضة، مشددة على الحكومة الائتلافية ستقود برنامجا حداثيا يحظى بإجماع القوى الديمقراطية وهو برنامج يتناقض مع أجندة الحركة الإسلامية المرتبطة بالتنظيم الدولي للإخوان والمدعوم من المحور التركي القطري.

ووجد الغنوشي في موقف الجبهة الشعبية الرافض لإشراك النهضة في الحكومة “مدخلا” لإقصاء اليسار من الحكم من خلال التواجد في تركيبة الحكومة ولو بعدد قليل من الحقائب الوزارية متعللا بأن مصلحة البلاد تقتضي مشاركة الحركة في الحكم.

ويحاول رئيس حركة النهضة جر الصيد إلى “الأمر الواقع” حتى أنه بات يتحدث عن شروط الحركة للمشاركة في الحكومة كما لو أن تلك المشاركة طرحت عليه أصلا مشددا على أن “المشاركة ستكون مرتبطة بالتوافق حول تصور الحكومة وتركيبتها وأشخاصها وبرنامجها وأولوياتها”.

وإزاء هذا “التضليل السياسي والإعلامي” أكدت قيادات مسؤولة في نداء تونس أن الحبيب الصيد لم “يتشاور مع النهضة حول إسنادها حقائب وزارية وإنما تشاور معها حول تصورها لعمل الحكومة وللأولويات المطروحة على البلاد شأنها في ذلك شأن عدد من الأحزاب الشخصيات السياسية المستقلة والكفاءات غير المتحزبة في إطار استجلاء الآراء والمواقف”.

ولا تخفي نهضة الغنوشي التي تعصف بها أزمة تفكك لهياكلها التنظيمية بعد أن ألقت بها الخارطة السياسية الجديدة إلى خارج تضاريس المشهد السياسي المؤثر، خشيتها من نجاح الحبيب الصيد في إقناع اليسار بالمشاركة في تركيبة الحكومة وبناء جبهة ائتلافية بين القوى العلمانية والديمقراطية تتكفل بتنفيذ برنامج تنموي وسياسي وأمني كفيل بإنقاذ تونس خلال الفترة القادمة، بمعزل عن أي دور للحركة الإسلامية.

وفي مسعى لتلميع صورة النهضة المعزولة شعبيا والمنبوذة سياسيا، قال راشد الغنوشي إن الحركة ستقترح “أسماء قيادات جديدة لم تتول حقائب وزارية خلال فترة حكم الترويكا” على الحبيب الصيد الأمر الذي رأى فيه المحللون أن النهضة تسعى بكل الطرق لانتشال نفسها من التهميش وأنها تمر بحالة إنهاك وارتباك ما يجعلها تقبل ولو بحقيبة أو حقيبتين وزاريتين لا أكثر.

وبعيدا عن “لهاث النهضة” من أجل العودة إلى الحكم وبعيدا كذلك عن كواليس المشاورات التي يجريها الحبيب الصيد ومواقف الأحزاب الديمقراطية، فإن الرأي العام التونسي الذي يحمل النهضة مسؤولية أربع سنوات عجاف لم تجن منها البلاد سوى اتساع رقعة الفقر وتزايد عدد العاطلين واستباحة المجموعات الإرهابية لدماء التونسيين ينتظر من حكومة الصيد أن تقطع نهائيا مع تجربة الترويكا، ويتمسك بأن تعكس تركيبة الحكومة إرادة الشعب التي تجسمت من خلال نتائج صناديق الاقتراع بفوز حزب نداء تونس ومعه القوى الحداثية.

وتتمسك غالبية التونسيين بأن التحديات التي تواجهها البلاد تستوجب فتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد من خلال “حكومة ديمقراطية” تقود مشروعا حداثيا يستجيب لتطلعات المواطن في التنمية والديمقراطية والحرية.

ووفق “خيار” نداء تونس والتزامه بإشراك القوى الديمقراطية وعدم تحالفه مع النهضة والذي اكتفى بـ10 حقائب وزارية من بين 25 حقيبة وترك 15 حقيبة للمعارضة الديمقراطية يفترض أن يعلن الصيد نهاية هذا الشهر على أول حكومة ائتلافية ذات أغلبية معارضة في تاريخ تونس تضم في تركيبتها قوى تجد نفسها للمرة الأولى في الحكم بعد عقود من النضال وفي مقدمة تلك القوى اليسار الذي تحمل الكثير من الصبر منذ العشرينات من القرن الماضي مدافعا عن جملة من المبادئ وعلى رأسها الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

ووفق هذا التوجه ستتشكل أول حكومة بناء على رؤية سياسية واعية أولا بحق القوى السياسية في المشاركة في إدارة الشأن العام بعد أن انتزعت التأشيرة من صناديق الاقتراع، وثانيا بضرورة تحمل المسؤولية المشتركة في إدارة ملفات حارقة بكل المقاييس في ظل أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية تزيدها الأوضاع الإقليمية تعقيدا لا يخل من مخاطر.

ويسعى الندائيون إلى مسح تجربة حكم الترويكا من ذاكرة التونسيين ليدفعوا باتجاه تشكيل حكومة ائتلاف وطني موسع متسلحين بوعي وطني حاد وبذكاء سياسي لا يخلو من دهاء مشروع بل ومطلوب من أجل تنفيذ برنامج تنموي وسياسي وأمني كفيل بإنقاذ تونس وهي تتحسس طريقها نحو المستقبل وسط طريق مفخخ بالألغام.

ويعكس هذا الخيار حقيقة يبدو أنها باتت مصدر قلق للنداء وهي أن عملية الإنقاذ ليست مضمونة مئة بالمئة وإن كانت ممكنة وأن حكم الأغلبية البرلمانية لا يصلح للتونسيين الذين يجمعون على أن أوضاعهم ازدادت بؤسا بعد أربع سنوات من الثورة، لذلك قلب الندائيون المسالة واختاروا حكومة الأغلبية المعارضة على حكومة حزب الأغلبية حتى يتقاسم الشركاء نتائج السياسات المنتهجة خلال السنوات الخمس القادمة.

وخلال المرحلة القادمة ستكون حكومة الصيد مخبرا مزدوجا، لمدى نجاح العملية الديمقراطية من خلال توفير الحد المطلوب من انسجام الفريق الحكومي المتعدد حزبيا، ومخبر لمدى نجاعة أداء البرنامج الذي سيعتمد بخصوص على إنعاش الاقتصاد وجلب الاستثمارات وتوفير التنمية والأمن.

ولعل هذا ما يتطلب تطعيم تركيبة الحكومة الائتلافية بكفاءات وطنية غير متحزبة تمتلك الخبرة والمعرفة في إدارة ملفات شائكة لا تستوجب بالضرورة الولاء الحزبي مثل الملف الاقتصادي والملف الصناعي والملف السياحي وملف التعاون الولي والاستثمار الخارجي وأيضا ملف الشؤون الاجتماعية باعتباره من أدق الملفات وأخطرها وأشدها حساسية ولا ينجح في إدارته إلا وزيرا يصغي جيدا لنبض الشارع ويمتلك حسا نقابيا رهيفا يؤهله إلى فتح قنوات حوار جدي مع الاتحاد العام التونسي للشغل.

ولضمان نجاحها في إنقاذ البلاد تحتاج حكومة الصيد إلى ثقة التونسيين ولكنها تحتاج أيضا إلى ثقة شركاء تونس الاقتصاديين سواء المؤسسات المالية الإقليمية والدولية أو البلدان التي تربطها بها علاقات شراكة وفي مقدمتها بلدان الإتحاد الأوروبي التي تستأثر بأكثر من 70 في المئة من المبادلات التجارية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Ask AI to edit or generate...