المسكوت عنه في حياة “عميد الأدب العربي”
تمر اليوم، ذكرى وفاة عميد الأدب العربي طه حسين، الذي ولد بمركز مغاغة إحدى مدن محافظة المنيا بشمال الصعيد؛ الذي أطفيء نور الدنيا في عينيه وهو ابن أربعة أعوام، فأدخله أبوه كتّاب القرية للشيخ محمد جاد الرب، ليتعلم اللغة العربية والحساب وتلاوة القرآن الكريم، وحفظه في مدة قصيرة أذهلت أستاذه وأترابه ووالده، الذي كان يصحبه أحيانًا لحضور حلقات الذكر، والاستماع لسيرة عنترة وأبو زيد الهلالي.
بدأ طه حسين سنة 1902 الدراسة بجامعة الأزهر، للاستزادة من العلوم العربية، فحصل فيه ما تيسر من الثقافة ونال شهادته؛ لكنه ضاق ذرعًا فيها، فكانت الأعوام الأربعة التي قضاها فيها، وكأنها أربعون عامًا نظرا لرتابة الدراسة، وعقم المنهج، وعدم تطور الأساتذة والشيوخ وطرق وأساليب التدريس وفق رؤيته.
ولما فتحت الجامعة المصرية أبوابها سنة 1908 كان طه حسين أول المنتسبين إليها، فدرس العلوم العصرية، والحضارة الإسلامية، والتاريخ والجغرافيا، وعددًا من اللغات الشرقية كالحبشية والعبرية والسريانية، وظل يتردد خلال تلك الحقبة على حضور دروس الأزهر والمشاركة في ندواته اللغوية والدينية والإسلامية.
ودأب طه حسين على هذا العمل حتى سنة 1914، وهي السنة التي نال فيها شهادة الدكتوراه، وموضوع الأطروحة هو: "ذكرى أبي العلاء" ما أثار ضجة في الأوساط الدينية، وفي ندوة البرلمان المصري؛ إذ اتهمه أحد أعضاء البرلمان بالمروق والزندقة والخروج عن مبادئ الدين الحنيف".
ولم تكن أزمة "ذكرى أبي العلاء" هي الوحيدة في حياة طه حسين، فمن المحطات المهمة في حياته أيضًا الأزمة التي أثارها كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي خرج للنور في شهر مارس من عام 1926.
كما اتهم طه حسين بتشويه وتخريب صورة العصر العباسي، لكونه خلص في كتابه "حديث الأربعاء" وبعد تناول علمي إلى أنّ العصر العباسي كان عصر مجون وزندقة.
وفي عام 1926م أي بعد عام من قضية كتاب "الإسلام وأصول الحكم" الذي وضعه الشيخ علي عبد الرازق، وهي القضية التي انتهت بأزمة وزارية حادة أدت لانهيار الحكومة الائتلافية بين الاتحاديين والأحرار الدستوريين بخروج الأخيرين من الوزارة، ظهر كتاب طه حسين، "في الشعر الجاهلي" وأثار أزمة لا تقل في حدتها عن الأزمة السابقة.
الكتاب.. الأزمة
استهل طه حسين كتاب "في الشعر الجاهلي" بقوله "أريد ألا نقبل شيئًا مما قاله القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبت، إن لم ينتهيا إلى اليقين فقد ينتهيان إلى الرجحان".
ويقول: "لقد اقتنعت بنتائج هذا البحث اقتناعًا ما أعرف أنى شعرت بمثله في تلك المواقف المختلفة التي وقفتها من تاريخ الأدب العربي، وهذا الاقتناع القوى هو الذي يحملني على تقييد هذا البحث ونشره في هذه الفصول، غير حافل بسخط الساخط ولا مكترث بتزوير المزور، وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قومًا وشق على الآخرين".
وصور طه حسين منهجه في الكتاب بقوله: "إنه سيسلك في هذا البحث منهج ديكارت الذي يطالب الباحث بأن يتجرد من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن ينسى عواطفه القومية والدينية.
ويبرز هدفه بأنه يرمي إلى تحرير الأدب العربي من القيود التي تربطه بالعلوم العربية والعواطف الدينية، وحتى يدرس الأدب لنفسه دون أن يكون وسيلة لفهم القرآن والحديث.
وقال أيضًا إنه يريد "أن يدرس تاريخ الأدب في حرية وشرف، كما يدرس العلم الطبيعي وعلم الحيوان والنبات".
فعندما توغل الدكتور طه حسين في دراسة تاريخ الأدب والشعر الجاهلي حتى شك في قيمة هذا الشعر، وكان شكه نتيجة بحث طويل وتفكُّر عميق، وقراءة مستمرة حتى انتهى بحثه إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مؤلفة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين وإن بقي من الشعر الجاهلي الصحيح شيء، وهو عنده قليل جدًا، فهو لا يمثل شيئًا ولا يدل على شيء ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي.
وحسب رأيه فإن أكثر ما نقرأه من شعر امرئ القيس، أو طرفة، أو ابن كلثوم، أو عنترة، ليس من هؤلاء في شيء، وإنما هو من انتحال أو اختلاق الرواة.
يقول في كتابه: " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا. ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن أن إثبات هذه القصة التي تحدثت بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المستعربين فيها ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة".
ويقول في موضع آخر من الكتاب: "ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه من قريش، فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون من صفوة بني هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قُصي، وأن يكون قُصي صفوة قريش، وقريش صفوة بنى مُضر، ومُضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية".
وقد صاحب الشك في الشعر الجاهلي نتيجة أخرى مؤداها أن مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تُلتمس في القرآن الكريم لا في الأدب الجاهلي، فما دام الأدب الجاهلي منتحلًا فإن صورة العصر الجاهلي لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال القرآن الكريم الذي لا يقبل الانتحال. وخطورة هذه النتيجة أنها تقلب المبدأ القديم، إذ بعد أن كان الشعر الجاهلي يستعان به لفهم المُشْكِل من القرآن إذا بالقرآن يستعان به لفهم ما غمض من جوانب العصر الجاهلي.
الحرب على طه حسين:
انقلبت الدنيا رأسًا على عقب ضد هذا الكتاب الذي يدرس في الجامعة، باعتباره يحوي آراء منافية للدين، واستغل خصوم الدكتور طه حسين ما جاء بالكتاب من آراء اعتبروها زندقة وفلسفة لا مبرر لها، فاستغلته أحزاب المعارضة لتشن عليه حملة شعواء، بجانب رجال الدين الذين كانوا يضمرون له كراهية منذ خروجه على نظام الأزهر.
واتفق الجميع على رأى واحد وهو أن الكتاب فيه كفر وإلحاد، وطالبوا الحكومة بمصادرته، ومنع مؤلفه من التدريس في الجامعة "كى لا يفتن نابتة الأمة بما يبثه من الضلال والفساد".
وبرغم هذا التنبيه الذي استهل به طه حسين كتابه إلا أن الكتاب لم يسلم من الهجوم الذي تجاوز نقد الكتاب إلى التشهير بصاحبه وتجريحه، وقد تركز هجوم الجميع كما رصده سامح كُريم في كتاب "معارك طه حسين الأدبية والفكرية" حول أربع نقاط جوهريه تتبلور في: أنه كذّب القرآن في أخباره عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأنه أنكر القراءات السبع المجمع عليها، فزعم أنها ليست منزلة من الله تعالى، كما أنه طعن في نسب النبى – صلّى الله عليه وسلم، وأنه أنكر للإسلام أولويته في بلاد العرب وأنه دين إبراهيم – عليه السلام.
وتعددت أساليب الهجوم على كتاب الدكتور طه حسين ما بين صفحات الجرائد والمجلات وإصدار عشرات الكتب التي تناولت الكتاب بالنقد والتحليل ثم الهجوم.
وقد تخلى عن طه حسين في أزمته كثير من الأطراف، فحزب الأحرار الدستوريين لم يكونوا مستعدين للوقوف مع طه حسين بعد أن وهنوا عام 1924 في أزمة كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، إضافة إلى أنّ طه حسين نفسه كان قد كتب في جريدة حزب الاتحاد الموالي للملك بعض المقالات، لذلك كانت فرصة أتباع سعد زغلول للانتقام من طه حسين ليس لكتابته مقالات نارية ضد زعيمهم سعد، بل لأنّهم أرتؤوه مشمولًا برعاية (حسن باشا نشأت) وكيل الديوان الملكي.
يضاف إلى ذلك موقف الأزهر الذي تملكته أسباب الغيرة من الجامعة المصرية الوليد ورآها فرصة لاستحلال دماء الكفرة، وكذلك موقف صحيفة "الأهرام" وتبنيها لكل الكتابات ضد طه حسين؛ ليس له تفسير سوى أن طه حسين قد كف عن الكتابة في (الأهرام) فجأة في أواخر 1922م، وهاجر بقلمه إلى جريدة (السياسة) والتي يبدو أنّه فعلها دون رضا المسئولين في (الأهرام).
كذلك أدى نشر الكتاب إلى اعتصامات ومظاهرات طالبت برأس المؤلف، بل تلقى عدة خطابات تهدده بالقتل.
وهاجمه في مجلس النواب مصطفى الغاياتي، وقدّم النائب عبد الحميد البنان، اقتراحًا في بداية سبتمبر 1926م، يطالب فيه بمصادرة الكتاب وإعادة المؤلف للجامعة ما دفعته فيه كحقوق نشر، وطرده من الجامعة، ورفع الدعوى عليه.
كما خاطب سعد زغلول أمام إحدى المظاهرات التي قامت للاحتجاج على الكتاب، مؤكدًا أنّ مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر في هذه الأمة المتمسكة بدينها، هبوا أن رجلًا مجنونًا يهذى في الطريق، فهل يعيره العقلاء شيئًا من ذلك، إن هذا الدين متين وليس الذي شك فيه زعيمًا ولا إمامًا حتى نخشى من شكه على العامة. فليشك ما شاء، ماذا علينا إذا لم يفهم البقر".
وشكل الأزهر الشريف جمعية للدفاع عن حقوق العلماء، ودعا إلى مظاهرة عامة بعد صلاة الجمعة 12 نوفمبر 1926م، وتوجه 200 عالم من علماء المعاهد الدينية يتقدمهم شيخ الأزهر وهيئة كبار العلماء لمقابلة رئيس الديوان الملكي، وشكوا له مطاعن طه حسين في الإسلام، فأعلن تضامنه معهم.
وقدّم الشيخ خليل حسين، الطالب بالقسم العالي بالأزهر الشريف، بلاغا إلى النيابة العامة بتاريخ 30 مايو 1926م اتهم فيه طه حسين الأستاذ بالجامعة المصرية بأنّه ألّف كتابًا اسماه (في الشعر الجاهلي) ونشر على الجمهور في هذا الكتاب "طعن في القرآن العظيم حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم…. الخ".
والبلاغ الآخر قدمه عبد الحميد البنان أفندي عضو مجلس النواب، في 14 سبتمبر 1926م، ذكر فيه أنّ طه حسين نشر ووزع وعرض للبيع.. كتابًا اسماه "في الشعر الجاهلي" ونشر على الجمهورية في هذا الكتاب "طعن في القرآن العظيم حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم… الخ".
هذا، وقدم فضيلة شيخ الأزهر خطابًا يتضمن تقرير رفعه علماء الأزهر عن كتاب ألّفه طه حسين كذّب فيه القرآن صراحةً وطعن فيه على النبي "صلى الله عليه وسلّم" وعلى نسبه الشريف وأهاج بذلك ثائرة المتدينين وأتى فيه بما يخل بالنظم العامة، كما أرسل بعض أساتذة الأزهر وطلابه بسيل من الرسائل للمسئولين وللنائب العام يلحّون فيها على طلب التحقيق مع طه حسين.
في هذا الجو المشحون بالغضب، نصح عبد الخالق ثروت "رئيس الوزراء" طه حسين بأن يسافر مع أُسرته إلى فرنسا حتى تهدأ الأحوال.
ونظرًا لتغيب طه حسين خارج مصر أرجئ التحقيق إلى ما بعد عودته، ولما عاد بدأ التحقيق بتاريخ 19 أكتوبر سنة 1926م، وحضر طه حسين وأخذت أقواله وكان إلى جانبه المحامون (عبد العزيز فهمي، كامل البنداري، أحمد رشدي، عبد الملك حمزة).
كانت الاتهامات الموجهة لطه حسين، حسب رئيس النيابة محمد نور، هي: تكذيب القرآن الكريم في إخباره عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، تعرضه للقراءات السبع المجمع عليها وزعمه بعدم إنزالها من عند الله، وأنّ "هذه القراءات إنما قرأتها العرب لا كما أوحى الله بها إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام"، تعريضه بنسب الرسول فيما جاء في قوله إنّ انتحال الشعر ونسبته للجاهليين جاء بهدف (تعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش…)، إنكار أنّ الإسلام دين إبراهيم.
التحقيق مع طه حسين
بدأ التحقيق مع طه حسين في 19 أكتوبر سنة 1926م، وتمّ استجواب المؤلف من قبل رئيس نيابة مصر محمد نور الذي أدار التحقيق مع طه حسين بوعي كامل، وبموضوعية تامة، وكان محمد نور يعرف جيدًا حجم مسئوليته الجسيمة، فهي ليست أبدًا قضية عادية وإنما هي قضية تاريخية يعرف أبعادها حق المعرفة، لذلك نشر قراره على نفقته الخاصة وطرحه للبيع في الأسواق.
عرض قرار النيابة التهم الموجهة للدكتور طه حسين المتمثلة في التهم الأربع، وجاء رد المحقق عليها: بالنسبة للتهمة الأولى وهي تكذيب القرآن الكريم في إخباره عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، رأى أنّ المبلغين قد انتزعوا العبارات من موضوعها والنظر إليها منفصلة وأنّها جاءت في الكتاب: (في سياق الكلام على موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذي ألف من أجله الكتاب..).
وفيما يتعلق بالتهمة الثانية تعرضه للقراءات السبع المجمع عليها وزعمه بعدم إنزالها من عند الله، رأى المحقق، أنّ ما ذكره المؤلف في هذه المسألة هو بحث علمي لا تعارض بينه وبين الدين.
وفي التهمة الثالثة، وهي تعريضه بنسب الرسول فيما جاء في قوله: إنّ انتحال الشعر ونسبته للجاهليين جاء بهدف (تعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش…)، رد المحقق قائلًا: (ونحن لا نرى اعتراضًا على بحثه على هذا النحو من حيث هو دائمًا على ما نلاحظه عليه أنّه تكلم فيما يختص بأسرة الرسول "صلى الله عليه وسلّم" ونسبه في قريش بعبارة خالية من كل احترام بل وبشكل تهكمي غير لائق ولا يوجد في بحثه ما يدعوه لإيراد العبارات على هذا النحو.
أما التهمة الرابعة وهي إنكار أنّ الإسلام دين إبراهيم، فيقول النائب محمد نور: (نحن لا نرى اعتراضًا على أن يكون مراده بما كتب في هذه المسألة هو ما ذكره، ولكننا نرى أنّه كان يسئ التعبير جدًا في بعض عباراته…).
ويؤكد المحقق أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين بل أنّ العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أنّ بحثه يقتضيها.
من جانبه يربط الكاتب سامح كريم، في كتابه "الجديد في الشعر الجاهلي.. درة طه حسين الناصعة"، الذي يقدم فيه دراسة وتحليلًا لكتاب عميد الأدب العربي، بين كتاب "في الشعر الجاهلي" وبين دعوة طه حسين إلى الإصلاح باعتبارهما جناحين متلازمين لدى حسين وبعض معاصريه ممن كانوا يرون أن التعبير الأدبي، نثرًا كان أو شعرًا، مرآة للحياة التي يعيشون فيها وأنه ينبغي أن تناقش جوانب هذه الحياة سواء العقلية أو الدينية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية.
ويؤكد الكتاب أن عميد الأدب العربي كان حاسمًا في ضرورة ألا ينبغي أن نطمئن إلى ما قاله السابقون ونأخذه دون بحث أو تمحيص بل يجب أن نناقشه ونشك فيه شكا علميا دقيقا باعتبار أن الركون إلى المتاح دون مناقشته يؤدي إلى الجمود والتحلل وهي الآفة التي ظل يقاومها فكرًا وعملًا.
ويرى الكاتب أن الحياة الثقافية انقسمت منذ صدور كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين إلى فريقين يمثل حسين الأول منهما وهو تيار الإصلاح والتجديد والدعوة إلى التقدم، والآخر يمثل تقديس التراث وكان رائده محمود محمد شاكر الذي رد على طه حسين كثيرًا، وهما تياران ما زالا يحكمان حياتنا إلى الآن في الأدب كما في الدين والسياسة والمجتمع.
"ضجة كبيرة لأمر تافه"
بهذه العبارة أجاب طه حسين على أسئلة لمحرر مجلة "الانفورماسيون" الفرنسية نشرتها مجلة " السياسة الأسبوعية" – التي كان يرأس تحريرها محمد حسين هيكل، وذلك بعد ترجمتها في عددها الصادر في 26 مايو 1926.
فقد سألته المجلة: "أية عاصفة تلك التي أثرتها يا دكتور؟"، ليجيب قائلًا: ضجة كبيرة لأمر تافهٍ، إن الأستاذ الذي يلقى دروسه بأمانة كثيرًا ما تعرض له في المادة التي يدرسها ملاحظات ومباحث شخصية كما تعرض له في بعض الأحايين نظريات أيضًا، وطبيعى جدًا أن يجمع هذه الملاحظات ويصيغها في قالب تحليلى يعرضه مع شيء من التفصيل على زملائه.
وقالت المجلة: ومع ذلك فقد تعرضت لمسائل تعرف أنها شائكة؟!
قال حسين: بلى، ولكنى طلبت مدفوعًا بشغف مهنتي إلى أولئك الذين لا يعرفون مناهج النقد الحديثة والبحث الحر، ألا تقرأون كتابا لم يكتب لهم، إياك أن ترى في ذلك زهوًا، إن كتابى جدير بما هو جدير به، وقد لا تكون له قيمة إلا في نزاهة بحثه، أقول لك هذا فقط لأبين لك أنى لم أفكر لحظة في أن أنتهك معتقدات أحترمها، بل لم أفكر قط في أنى قد أستطيع انتهاكها.
قالت المجلة: إذن فما الذي أثار خصومك إلى هذا الحد؟
فقال طه حسين: رجال الدين يرموننى بالإلحاد على أنى أؤكد أن ثمانية وتسعين في المائة ممن يتهموننى لم يقرءوا كتابى، ولست أقدم لك إلا دليلا واحدا: في هذا الصباح كتب لى شيخ من الزقازيق يطلب نسخة من الكتاب لكى يستطيع أن يقول فيه رأيه بصراحة، ومع ذلك فإن هذا الشيخ قد وقع منذ اثنى عشر يوما عريضة يطالب موقعوها برفتى، قيل لهؤلاء البسطاء إنى أطعن في الإسلام، فأشهروا الحرب عليّ جميعًا، على أنى أقول عاليًا: ليس في كتابى كلمة يمكن أن تؤول ضد الدين، والعبارة الوحيدة التي يمكن أن انتقد من أجلها تضع النصوص المقدسة بعيدة عن قسوة المباحث التاريخية، قلت إن يكفى لكى تثبت من الواجهة العلمية وجود إبراهيم وابنه في التاريخ أن يكون اسماهما قد ذكرا في التوراة وفي القرآن، وليس معنى ذلك أن إبراهيم لم يوجد قط، كما نسب إليّ القول بذلك كاتب في جريدة "البورص اجبسيان"، لم يقرأ كتابى أيضا.
لم يكن لي نية سوى تمحيص الحقيقة في موضوع أشغف به؛ لأنى أحب آدابنا ولغتنا الحب الجم، وأنى لا أقدر بمعيار الجد مهمتى كأستاذ في جامعة نريد جميعًا أن تكون خليقة بهذا الوصف، هاتان العاطفتان تجعلاني أسير في طريقي دون أن أعبأ بوشايات منها ما يرجع إلى البغض أكثر منه إلى الاستياء، فعلى أولئك الذين يؤمنون بالخطر أن يفتحوا أعينهم لمسائل خطيرة غير هذه، أما هذه فمسألة أخرى.
زوجته في مذكراته: طه حسين احتمل الأزمة بصلابة
عن تلك الأزمة التي سببها كتاب "في الشعر الجاهلي" تقول زوجته سوزان طه حسين في مذكراتها "معك": الهزات التي سببها كتاب الشعر الجاهلى قد أساءت وضعنا، فالضجة التي اقترنت بهذا الكتاب وثورة الجهل والتعصب التي أعقبت صدوره، لقد بدأ كتابة هذا الكتاب في يناير 1926 وأنجزه في مارس من العام نفسه، كان يعمل به في النهار ويحلم به في الليل مدفوعًا بحماسة بلغت به درجة أنه شرع فور إنجازه بتأليف كتاب عن الديمقراطية، لكن ما حدث له أرهقه ولم يكن يفهم هذا الحقد والرياء وتلك البراعة التي نجحوا بها في تحريض أناس طيبين ضد إنسان شريف وفي جره إلى المحكمة بعد أن صادروا كتابه، والحملات القاسية في الصحافة والشتائم، ومع ذلك فقد احتمل كل شىء بصلابة ورأس مرفوع.
واتصل رئيس الوزراء عبدالخالق ثروت باشا بشيخ الأزهر الشيخ أبا الفضل الجيزاوى يسأله عن هذه الحملة التي يقوم بها الأزهر ضد طه حسين، فقال الشيخ الجليل له: الأزهر غير مسئول عن هذه الحملة فسأله ثروت باشا ومن المسئول إذن؟ فقال شيخ الأزهر: إنه الملك فؤاد.
النار تشتعل ثانية
لم تمر سنوات ست حتى اشتعلت معركة الشعر الجاهلى من جديد، ويصادر الكتاب وذلك لرفض الدكتور طه حسين منح الدكتوراه الفخرية لبعض الأعيان مما أغضب حلمى عيسى باشا، وزير المعارف العمومية، فضلا عن غضب الملك فؤاد منه عندما زار الجامعة وكلياتها ودخل أول قاعة للمحاضرات وفوجئ بالطلبة يستمعون إلى محاضرة عن النظام الدستوري، ولتصفيق الطلبة لعدلى باشا رئيس مجلس الشيوخ أشد مما صفقوا للملك، فظن أن الدكتور طه حسين هو الذي كان وراءها.
لهذه الأسباب أوعزت حكومة إسماعيل صدقى باشا إلى أحد نوابها في البرلمان بإعادة فتح موضوع كتاب "في الشعر الجاهلى" من جديد وليبدأ سيل من الهجوم عليه في البرلمان وخارجه، حيث شن عليه الدكتور عبدالحميد سعيد أحد كتاب "الأهرام" هجومًا عنيفًا في ثلاثة مقالات نشرت بتاريخ 6، 17، 29 مارس 1932، فضلا عن مقالات أخرى أراد رئيس الحكومة صدقى باشا بها تأليب الرأي العام على طه حسين، وأوعز إلى الإمام الأكبر الشيخ الظواهرى بأن يعلن إدانة طه حسين من جديد، وبأنه لا يصلح أن يكون مربيًا للأجيال في الجامعة، حتى وصلت الحكومة ومن خلفها الملك إلى ما يريدون، فقد نقل عميد الأدب العربى من الجامعة إلى وزارة المعارف ثم فصله بعد ذلك منها.
على أثر ذلك خرج المفكرون والطلاب في مظاهرات غاضبة تطالب بعودة طه حسين للجامعة، وردًا على ذلك قرر وزير المعارف نقل طه حسين إلى ديوان الوزارة فرفض العمل وتابع الحملة في الصحف والجامعة كما رفض تسوية الأزمة إلا بعد إعادته إلى عمله وتدخل رئيس الوزراء فأحاله إلى التقاعد في 29 مارس 1932 فلزم بيته ومارس الكتابة في بعض الصحف إلى أن اشترى امتياز جريدة "الوادي" وتولى الاشراف على تحريرها، ثم عاد إلى الجامعة في نهاية عام 1934 وبعدها بعامين عاد عميدًا لكلية الاداب واستمر حتى عام 1939 عندما انتدب مراقبًا للثقافة في وزارة المعارف حتى عام 1942.
لقد دعا طه حسين إلى نهضة أدبية، وعمل على الكتابة بأسلوب سهل واضح مع المحافظة على مفردات اللغة وقواعدها، ولقد أثارت آراءه الكثيرين كما وجهت له العديد من الاتهامات، ولم يبالي طه بهذه الثورة ولا بهذه المعارضات القوية التي تعرض لها ولكن أستمر في دعوته للتجديد والتحديث، فقام بتقديم العديد من الآراء التي تميزت بالجرأة الشديدة والصراحة فقد أخذ على المحيطين به ومن الأسلاف من المفكرين والأدباء طرقهم التقليدية في تدريس الأدب العربي، وضعف مستوى التدريس في المدارس الحكومية، ومدرسة القضاء وغيرها، كما دعا إلى أهمية توضيح النصوص العربية الأدبية للطلاب، هذا بالإضافة لأهمية إعداد المعلمين الذين يقومون بتدريس اللغة العربية، والأدب ليكونا على قدر كبير من التمكن، والثقافة بالإضافة لاتباع المنهج التجديدي، وعدم التمسك بالشكل التقليدي في التدريس.