بعد 38 عاماً من رحيله نجيب سرور.. عاش محروماً ومات مقهوراً ومازال مظلوماً

 

 

هو أحد كبار المثقفين والمبدعين الذين ذابوا عشقاً فى تراب مصر ودفع الثمن، لم يأخذ حقه من التقدير فلا يعرفه الكثيرون.. ومن يعرفه يربط بينه وبين قصيدته المأسوية الشهيرة رغم ما تحتويه من عبقرية شعرية.. قدم فى حياته القصيرة التى لم تستمر سوى 46 سنة ما لم يستطع الكثيرون تقديمه فى مئات السنين.

كان عاصفة من الموهبة.. كتب الشعر بالفصحى والعامية وله 9 دواوين أشهرها ديوان «بروتوكولات حكماء ريش» الذى انتقد فيه مثقفى مصر، وألف أكثر من 15 مسرحية أشهرها «ياسين وبهية» و«منين أجيب ناس» وهى مسرحية كتبها فى أسبوعين فقط أثناء احتجازه من قبل الحكومة بمستشفى الأمراض العقلية، بالإضافة لإخراجه 8 مسرحيات وقيامه ببطولة 4 مسرحيات أخرى وكتابته عشرات المقالات والدراسات النقدية والأدبية.

نجيب سرور.. شاعر ومؤلف وممثل ومخرج مسرحي، حالة فريدة ونادرة جداً من المبدعين، نموذج مثالى للفنان والمثقف الذى لا ينطق كلمة واحدة دون إيمان كامل بها لدرجة أن المؤرخين الأدبيين قالوا إن التطابق بين أقواله وأفكاره وأفعاله كان السبب الرئيسى فى حياته الصعبة ونهايته المأساوية.. عشق مصر ورفض أن يتنازل عن هذا العشق إلى آخر لحظة فى عمره.. جاع، وتشرد، وسجن، واتهم بالجنون، ووصل الأمر لوضعه فى مستشفى الأمراض العقلية، ولكنه ظل ثابتا على موقفه وايمانه بقضية الوطن.

عاش حياة أقرب لحكاية ساخرة أو مأساة إنسانية، أشبه بصرخة يائسة من روح عجزت عن مواجهة الواقع، فأصابه ذلك بأقصى أمراض العالم ألماً وعذاباً.. فعندما يحدث الصدام بين الواقع والفنان النبيل المتمسك بفنه ومشاعره الرقيقة وأحاسيسه المرهفة تكون النتيجة ما وصل اليه.. وهو ليس عيباً فى نفس نجيب سرور ولكن لوجود شعرة رقيقة بين الفن والجنون، دائرة مغلقة تجمع العبقرية والجنون، الفيلسوف العظيم نيتشه جن بشكل كامل فى آخر 11 عامًا من حياته، و(هولدرلين) الذى يعد واحدا من أهم الشعراء فى تاريخ الانسانية أمضى نصف عمره تقريبًا فى بحر الجنون.

فنجيب سرور الذى عانى القهر منذ كان صغيرا عندما رأى عمدة قريته يضرب أباه وأمه بالحذاء، وجسد هذه الواقعة فى قصيدته «الحذاء»، فمنذ نعومة أظافره يدرك أن من يملك يمارس قهراً وظلماً على من لا يملك، كما فعل العمدة مع أبيه وأمه.

ولعل ذلك كان سببا فى ميل (سرور) إلى الأفكار الشيوعية التى كانت سبباً فى نفيه، فعندما ابتعثته الحكومة المصرية إلى روسيا 1959 لدراسة المسرح أفصح عن هذه الافكار فألغت الحكومة المصرية بعثته بعد ثلاثة أشهر بسبب التقارير السرية التى كان يكتبها زملاؤه وترسل إلى جهاز مخابرات صلاح نصر، وهو ما أصاب شاعرنا بصدمة كبيرة أدت إلى إصابته بالاكتئاب ودخل مستشفى الأمراض العقلية وبعد خروجه منها كان مريضا بالسل وعاش دون مصدر دخل تقريباً مع زوجته الروسية وولديه «شهدى وفريد». اتصل به أحد كبار المسئولين فى وزارة الإعلام وطلب مقابلته وقطع المسافة من منزله بميدان الجيزة إلى ماسبيرو سيراً على الاقدام ليوفر مصاريف المواصلات، وطالبه المسئول بتأليف وإخراج 15 مسرحية للتليفزيون المصرى مقابل خمسة آلاف جنيه للمسرحية الواحدة بشرط أن تكون مسرحيات خفيفة بعيداً عن السياسة والافكار وأعمال العقل.. عرض مغر وواضح.. بيع القضية التى عاش من أجلها بـ75 ألف جنيه وهو مبلغ يكفى انتشاله من أزمته الصحية والمادية.. لكنه رفض العرض دون تفكير وعاد لمنزله بنفس الطريقة، وقرر أن يبيع العالم ويشترى نفسه.

وقبل وفاته بشهور وبعد انتصار أكتوبر قدم مسرحية «أوكازيون» على مسرح وكالة الغورى ينتقد فيها الحكومة ويرفض تحول البلاد إلى أقصى درجات الانحطاط الفكرى والاجتماعى تحت مسمى (الانفتاح)، ولكنه شعر بأن رسالته لم تصل للناس، فشعر بأن خشبة المسرح لا تكفى لاحتواء موهبته الكاسحة وحبه الجارف لمصر فاتخذ أغرب قرار وأقدم على أكثر تصرفات حياته جنونا، فوجئ الناس به يقدم مشاهد مسرحيته فى وسط ميدان التحرير حاملاً ابنه الصغير وصائحا «ألا أونا.. ألا تري.. مين يشترى الورد مني»؟

قال عن نفسه:

أنا لست أحسب بين فرسان الزمان

إن عد فرسان الزمان

لكن قلبى كان دومًا قلب فارس

كره المنافق والجبان

مقدار ما عشق الحقيقة

رحم الله شاعرنا الذى عاش محرومًا، ومات مقهورًا، وظل مظلومًا حتى بعد 38 الذكرى الثامنة والثلاثين لوفاته التى صادفت أمس الأول. ..!!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Ask AI to edit or generate...