تقارير .. 10 سنوات على «طريق الكوارث».. الدائرى سابقاً
«الطريق الدائرى».. حكاية مصرية بائسة عن طريق شاخ قبل أوانه، تجعد وجهه وتفككت مفاصله؛ فلم يكد الطريق الذى بدأ إنشاؤه فى منتصف الثمانينات يبلغ عامه العاشر منذ افتتاحه النهائى فى 2004، حتى أصبح مقبرة كبيرة مفتوحة، ومذبحاً مستديراً يطوّق القاهرة الكبرى بطول 105 كيلومترات.
«الوطن» ترصد أكثر الأمراض المزمنة التى يعانيها الطريق الدائرى فى عامه العاشر بعد افتتاحه فى 2004، وتنقل فى رصدها شهادات السائقين وحكايات الناجين من الموت على الطريق التى تتوالى «مشارط» هيئة الطرق فى تجميله لتقليل معدلات الحوادث متكررة الوقوع بين حاراته.
مصدر بالمرور: الدائرى يستقبل 4 أضعاف طاقته الاستيعابية من السيارات يومياً
سباق سيارات مفتوح يضم 135 إلى 176 ألف سيارة يومياً، يشارك فيه «بدر»، سائق ميكروباص، الذى لا يرمش أثناء قيادته على الطريق الدائرى مراوغاً بسيارته الميكروباص منحنيات الطريق وتضاريسه، يندفع الهواء الساخن إلى السيارة التى ترتج بعنف بسبب المطبات والفواصل غير المحسوبة؛ «الطريق كله تكسير، والسواقين كلهم بيزعلوا بسبب حوادثه» يقول «بدر».
مع بلوغ الطريق الدائرى عامه العاشر -افتتح نهائياً فى 2004- فإن إدارة المرور بوزارة الداخلية اعتبرته أكثر الطرق استقبالاً للحوادث المرورية فى القاهرة الكبرى، حيث رصدت الإدارة فى 2013 وقوع 13957 حادثاً مرورياً فى القاهرة، بزيادة 24% عن السنة السابقة 2012، وكان للطريق الدائرى النصيب الأكبر فى هذه الحوادث حيث بلغت فى العام نفسه 4906 حوادث مرورية.
«أنا أصلاً كنت شغال بالميكروباص باوصل شباب من أسيوط عندنا لطرابلس فى ليبيا، بس من يناير اللى فات ولما الدنيا اتقلبت تانى فى ليبيا مابقيناش نعرف نروح»، يضيف بدر محمد سائق الميكروباص الثلاثينى، بينما يحرص ألا يزيغ بصره لأكثر من ثوانٍ عن أسفلت الدائرى الذى يقطعه عدة مرات يومياً فى وردية عمله على الميكروباص بين المرج وميدان الهرم. ويتابع السائق: «أكتر حوادث بشعة شفتها كانت على الدائرى، يعنى من فترة قابلتنى حادثة عربية نقل على دائرى المنيب؛ العربية النقل عدت الطريق أخدت فى وشها عربية ملاكى ونزلت بيها من فوق الدائرى على عربية تانية بتحمل ناس فيها طربقتها، كل ده بسبب عيوب هندسية فى الطريق».
وشهد الطريق الدائرى فى 2013 نحو 4906 حوادث منها 845 وقعت فى المنطقة بين التجمع والأتوستراد، و765 حادثاً فى المنطقة بين الأتوستراد إلى المنيب، و673 حادثاً من المنيب إلى محور المريوطية، و474 حادثاً بين محور المريوطية وطريق الواحات، و339 حادثاً بين المريوطية وحازم حسن، و361 حادثاً بين محورى المريوطية و26 يوليو، و169 حادثاً بين التجمع ونفق السلام، و273 حادثاً بدءاً من محور 26 يوليو وحتى نفق السلام.
يطوِّق الطريق الدائرى القاهرة الكبرى بطول يبلغ 105 كيلومترات، وبحسب مصدر بإدارة المرور، رفض نشر اسمه، فإن «الطريق أنشئ لاستيعاب 35 ألف مركبة يومياً، لكنه يستقبل حالياً أربع أضعاف هذا الرقم».
«الدائرى عند الهرم كله مكسر ومدغدغ، والأسفلت اللى لسه مرصوف الحكومة بتشيله من جديد كل شوية وترصف تانى، والمناطق السليمة بتتكسر»، يشير مصطفى أحمد، سائق ميكروباص، إلى العيوب التى يلاحظها فى مساره اليومى على الطريق الدائرى، ترتج لحية «مصطفى» أثناء القيادة عند بلوغه إحدى المناطق المنخفضة على الطريق قبل أن يضيف: «ده دائرى ده؟! ده غلب شارع شبرا».
ويشير «بدر» إلى مناطق تزداد عندها حوادث المرور على الطريق الدائرى: «زى المنطقة عند سلم بشتيل هناك فيه فواصل بعيدة عن بعضها وبتتسبب فى حوادث وكوارث، وفيه عند نزلة بهتيم، وعند منطقة القومية، وعند شارع 10». يلتفت «بدر» بسرعة لركابه متسائلاً عن أقرب محطة سينزل عندها أحدهم، ثم يعاود النظر إلى الأسفلت الذى تبتلعه سيارته الميكروباص، ويستكمل: «المصيبة كلها عند الكارتة اللى موجودة عند كمين باسوس، دى كارتة للعربيات النقل التقيل عاملينها بعد نقطة الشرطة بحاجة بسيطة، ولما العربيات النقل بتقرب منها بتحاول تهرب من دفع الكارتة، فممكن يدخلوا فى أى عربية ملاكى فى طريقهم يطلعوا فوقها».
اعتاد محسن أبوأميرة، أحد المقيمين بمنطقة ميت حلفا وصاحب «نصبة شاى» بالقرب من باسوس، وقوع حوادث على الطريق الدائرى، ما دفعه لأن يقول: «عادى! الحوادث بتحصل فى كل مكان على الدائرى وبره الدائرى، والحكومة مش مبطلة تصليح، وفيه تكسير كتير وترميم كتير، والطريق طويل مش هيخلص فى يوم وليلة».
لكن سائق التاكسى «محمد فهمى» يبدى غضباً من المسئولين عن الطريق الذى يشهد كثيراً من الحوادث: «يا ريت الناس دى تتقى ربنا فينا ويفكروا شوية فى حسابهم فى الآخرة اللى هيكون عسير»، يقود «فهمى» سيارته التاكسى منذ نحو سبع سنوات على ما يذكر، وشهد وقوع حوادث خلال تلك الفترة: «عند نزلة المنيب المكان ده معمول غلط فى غلط والله، يعنى ازاى عندك مساحة واسعة وتسيبلى نزلة ضيقة بالشكل ده؟! اللى سمعناه إن الأرض دى بتاعت واحد من رجال الأعمال علشان كده طبطبوا عليه وماخدوش منه الأرض يوسعوا عندها النزلة، علشان كده تلاقى الحوادث هناك أكتر من أى مكان، وحوادث تشيب! والله بنتشاهد قبل ما بنطلع للشغل»!
وتتباطأ الحركة المرورية عند كثير من المناطق بطول الطريق الدائرى، الذى يتكون من قوسين (غربية: من المريوطية إلى طريق الواحات ومسطرد، وشرقية: من المريوطية إلى طريق السويس)، «ومن تلك المناطق نزلة صفط اللبن، عندها الطريق بيبقى واقف باستمرار»، يقول محمد فهمى. ومناطق أخرى منها نزلة ميدان الرماية التى يمر بها مصطفى أحمد، سائق ميكروباص، يومياً، والتى يذكر أنها «تشهد تصليحات من فترة طويلة لا تنتهى، ما يعطل المرور صباحاً ومساءً».
ويقول «خ. ش»، أحد سكان القطامية، إن «الدائرى بالقرب من منطقة التجمع الخامس، وخصوصاً عند نفق التجمع ونقطة الـ(U-turn) أو (الرجوع)، التى تقود المركبات من القطامية إلى المعادى أو إلى مدينة نصر – يشهد شللاً مستمراً بسبب سيارات النقل الثقيل، وتراكم القمامة ومخلفات المبانى فى منتصف الطريق الدائرى، بالإضافة إلى تكرار الحوادث فى تلك المنطقة لهذا السبب».
وتقدر دراسة «الازدحام المرورى فى القاهرة»، الصادرة عن البنك الدولى فى 2012، التكاليف السنوية للتكدس المرورى فى القاهرة بنحو 50 مليار جنيه أو ما يعادل 8 مليارات دولار، وهو ما يشكل 4% من إجمالى الناتج المحلى لمصر، وهى خسارة باهظة إذا ما قورنت بخسارة نيويورك التى لا تتعدى 0.07% من الناتج المحلى الأمريكى.
كما وضع تقرير «التنافسية العالمية» الصادر عن المنتدى الاقتصادى العالمى فى 2014، مصر فى المرتبة الـ122 من أصل 147 دولة من حيث جودة الطرق بها.
يتأفف محمد فهمى، السائق، الذى يزيل عرقه بإبهامه ويزيح ياقة قميصه الأحمر إلى الخلف بعيداً عن رقبته، ويقول: «الطريق الدائرى كله حفر الواحد لو ماتفادهاش هياخدها وهتجيب أجل عفشة العربية، ومش بعيد تجيب أجله هو شخصياً، وده مش حال الطريق الدائرى بس، مصر كلها كده».
وأقامت هيئة الطرق والكبارى، التى يتبعها الطريق الدائرى منذ 1998، عدة مناطق إصلاحات بطول الطريق، وبحسب نصر أبوطبيخ، مدير منطقة الطريق الدائرى فى هيئة الطرق والكبارى، فإن «الطريق الدائرى الذى يصل طوله إلى 105 كيلومترات يمر فوق 135 كوبرى، ويصل ارتفاعه إلى 15 متراً فى بعض المناطق، كما يعانى من أزمات كثيرة تحتاج إلى صيانة مستمرة».
ويردف «أبوطبيخ» أن «كمية ما يتم رفعه من مخلفات وقمامة على الطريق الدائرى يومياً تصل إلى 500 طن»، ويرجع مدير منطقة الدائرى تراكم القمامة على جانبى الطريق إلى اختراقه عدة مناطق عشوائية، منها السلام والمرج والخصوص ومسطرد وبهتيم والبساتين والمريوطية والعمرانية والكنيِّسة ودار السلام وغيرها.
وتزداد خطورة الطريق الدائرى فى وجود سيارات النقل الثقيل التى تستخدم الطريق الدائرى للانتقال سريعاً بين مناطق القاهرة الكبرى أو لدخول العاصمة من أحد الطريقين الزراعى أو الصحراوى. وحاولت أجهزة الدولة الحد من عدد المركبات التى وصلت إلى أكثر من 3.6 مليون على مستوى الجمهورية، حيث ينص قانون المرور رقم 121 لسنة 2008 فى مادته 28 على أحقية المحافظ فى إصدار قرارات بعد موافقة المجلس الشعبى المحلى للمحافظة لوضع حد أقصى للمركبات الأجرة و«التوك توك» المصرح بسيرها فى كل إقليم.
ويقول «خ. ش»، القاطن بالتجمع الخامس، إن «وجود سيارات النقل الثقيل يخالف قرار المحافظ بمنع سيرها داخل القاهرة الكبرى إلا بين الساعتين الثانية عشرة مساءً والسادسة صباحاً لتقليل الزحام المرورى»، ويضيف المصدر أن «سيارات النقل الثقيل توجد بكثافة على الطريق الدائرى، ما يضاعف حوادث المرور».
5 آلاف حادث مرورى العام الماضى فقط.. ومصر فى المرتبة 122 من 147 دولة بالنسبة لجودة الطرق
مشهد يتكرر كثيراً بطول الطريق الدائرى؛ أحد قائدى المركبات يترجل منها معايناً «صاجها» أو إحدى العجلات، ويمرر يده على أماكن التجريح التى أحدثتها لها إحدى السيارات. يقول حسام غانم، سائق تاكسى: «مفيش سواق تاكسى بيبقى مبسوط لو طلع مشوار عارف إنه هياخد فيه الطريق الدائرى، أصل الشوارع العادية مهما كانت مقرفة وزحمة فزحمة الدائرى لو حصلت بتبقى قفشة سودة»، يفرك «غانم» عينه اليسرى ثم يتابع: «كذا مرة بتزنق الساعة 4 العصر على الدائرى من الأتوستراد لحد المنيب، المنطقة دى أول عن آخر ماتعملش 4 أو 5 كيلو، يرضى مين الواحد ياخدها فى ساعة؟!» يتساءل «حسام» بنبرة عالية.
ومن بين حوادث الطريق الدائرى ما يرويه أحمد إبراهيم، سائق خاص، الذى يقول: «كنت ماشى فى مرة عند المريوطية وجيت أعدى من عربية نقل بمقطورة علشان أنا واخد الشمال، ربنا رزقنى بعربية بى إم سايقاها واحدة ست، فضلت أشاورلها تبعد وهى ولا هى هنا، والعربية النقل فضلت تجرح فى جنب العربية من ناحية كرسى السواق، والست اللى سايقة البى إم فاكرانى برازى فيها! لو كنت سكت والله كان زمانى مهروس تحت العربية النقل، بس قلت هى موتة ولا أكتر، كسرت ناحية العربية البى إم بالعربية طيرت اللى سايقاها جنب العربية، وطبعاً عربيتى أنا كمان اتدمرت من الجنبين، وبعدين نفدت من العربية المقطورة»،
يتابع السائق روايته: «وصلت إلى قبل محور صفط اللبن كان الجنبين بتوع العربية راحوا فى داهية، قمت واخد سرعة وقفلت الطريق على الست أم بى إم، نزلت تبعبع بالكلام وتشتم رحت شاتمها وقلتلها كنتى هتموتينى يا بنت الكلب! وضربتها بالقلم، والناس فضلوا يهدوا فيا ويقولولى: إنت لو مش سواق تمام كنت جيت تحت المقطورة، وخلصوها من إيدى».
وكانت الأسابيع القليلة الماضية قد شهدت حادثين لقى فيهما عدد من المواطنين مصرعهم وأصيب آخرون؛ الأول وقع فى 14 مايو الماضى على الطريق الدائرى بمنطقة مصر القديمة، حينما تصادمت سيارة نقل بمقطورة محملة بأطنان من الأرز مع سيارة نقل أخرى تنقل سيارات ملاكى، وتسبب التصادم فى احتراق 9 سيارات وتفحم 6 سيارات أخرى، بحسب إدارة المرور. وتم الدفع بعدة سيارات مطافئ لإخماد الحريق الذى عطل الطريق فى حينها.
مدير الطريق الدائرى: نرفع 500 طن مخلفات يومياً والطريق يستقبل 176 ألف سيارة كل يوم
والحادث الثانى وقع يوم السادس من سبتمبر الحالى فى حوالى الخامسة والنصف مساءً، حيث تصادمت سيارات ملاكى ونقل بسبب تساقط أحجار وطوب من سيارة نقل بمقطورة، أدت إلى وقوع الحادث عند منزل الطريق الدائرى المؤدى إلى مصر القديمة «نزلة زهراء مصر القديمة»، حيث تصادمت السيارة النقل بالمقطورة فى سيارة ميكروباص أولاً ثم فى سيارة ملاكى على الفور، فضلاً عن سقوط مصابين ووفيات فى الحادث ذاته.
يؤكد «أبوطبيخ»، مدير منطقة الدائرى فى هيئة الطرق والكبارى، أن «الطريق تُجرى عليه تصليحات وترميمات بشكل مستمر، الهدف منها تحسين جودته، وتلافى كل الأخطاء الهندسية: «نحاول تصليح الفواصل، ونحاول أن نزيل كل العوائق، وهذا سيستغرق وقتاً ونفقات».
يشكو مدير منطقة الدائرى من أن «فترة الانفلات الأمنى دفعت سكان بعض المناطق إلى إنشاء مطالع ومنازل غير رسمية على الطريق الدائرى غير مرصوفة، بحيث تسهل لسياراتهم بلوغ الطريق الدائرى من طريق أقصر، وهدفنا هو استهداف كل هذه المطالع والمنازل غير الرسمية».
وينهى «أبوطبيخ» حديثه لـ«الوطن» قائلاً: «هيئة الطرق والكبارى ستنتهى من إنشاء طريق دائرى إضافى أصغر من الطريق الدائرى القديم، الهدف منه امتصاص بعض السيولة المرورية بنسبة تصل إلى 37%، ما سيسهم فى تخفيف الحمل على الطريق الدائرى القديم، وسيسهل أعمال الصيانة وتحسين الخدمة بشكل يوفر راحة أكبر للمواطنين».
قائمة طويلة من المشكلات التى يرى سائقو المركبات أن الطريق الدائرى يعانيها؛ بداية من استيعاب أربعة أضعاف قدرته من السيارات، وتباعد بعض الفواصل بين قِطع الطريق الدائرى، ونقص بعض الخدمات بطول الطريق، وعدم وجود أوناش كافية لرفع السيارات المتصادمة قبل تفاقم الزحام المرورى.