“راسل برتراند”..فيلسوف الحرية
كتبت// وسام سعيد
هو أول من أسس المفهوم الصحيح لمعنى الحرية، فالحرية حسب قوله عندما تتحول الى فوضى فيجب حينئذ اللجوء على القانون إنه برتراند أرثر ويليام راسل رياضي وفيلسوف وداعية سلام إنكليزي. يعتبر هو وألفرد هوايتهد واضعي علم المنطق الرمزي أو الرياضي.
من أعظم الفلاسفة حصل على جائزة نوبل عام 1950 بالإضافة إلى نوط الإستحقاق ذو القيمة الكبيرة والذى قلده إياه الملك جورج السادس عام 1949 وجائزة سوننج من جامعة كوبنهاجن عام 1960. كما كان ناشطا بارزا ضد الحرب وضد الامبريالية كما شجع التجارة الحرة بين الشعوب. يعدّ من أشهر فلاسفة القرن العشرين، كما وُصِف بأنه أهم علماء المنطق الذين ظهروا منذ عصر الفيلسوف الإغريقي أرسطو.
قدَّم راسل أعظم إسهاماته في المنطق الصوري ونظرية المعرفة، وإن كان تأثيره يتجاوز هذين المجالين؛ إذ طوَّر أسلوبًا نثريًا يتسم بدرجة مدهشة من الوضوح وسرعة البديهة وجيشان العاطفة، وحصل على جائزة نوبل للأدب عام 1950م.
أصبح راسل شخصية مؤثِّرة ومثيرة للجدل في القضايا الاجتماعية والسياسية والتعليمية، وكان مباشرًا في دعوته للسلام، ودعا لانتهاج مواقف ليبرالية إزاء الجنس والزواج ووسائل التعليم، وكان من منتقدي الحرب العالمية الأولى (1914م – 1918م). سجن عام 1918م بسبب تصريحات ضارة بالعلاقات البريطانية الأمريكية، ثم دخل السجن مرة أخرى عام 1961م بسبب التحريض على العصيان المدني في حملة تطالب بنزع السلاح النووي.
تميز بكونه ناقدا ساخرا بالإضافة إلى كونه عالم إجتماعى دقيق كتب ما يزيد عن المائة كتاب والكثير من المقالات في الفلسفة وعلم النس وعلم الإجتماع والسياسة والدين والأخلاق والجنس. مات وعمره حوالي المئة عام في سنة 1970.
من أعماله مبادى الرياضيات وتاريخ الفلسفة الغربية ومشكلات الفلسفة ومن أقواله “إن مبرر إحترام الأطفال لأبائهم لا يعد أقوى من ذلك الخاص بإحترام الوالدين لأطفالهم فيما عدا أنه عندما يكون الأطفال صغاراً يكون الأباء أقوى من الأطفال”.
يبدو أن التفكير الليبرالي قد أخذ يميل في السنوات الأخيرة، تحت تأثير النظرة الاشتراكية، إلى منح الدولة سلطة متزايدة مظهرا بعض العداوة نحو مكانة الملكية الخاصة. نجد مقابل ذلك أن النظرة النقابية تظهر عداوة لكل من الدولة والملكية الخاصة معا. أنا أميل إلى الاعتقاد بأن النظرة السنديكالية[1] أقرب إلى الصواب من النظرة الاشتراكية في هذا الشأن وذلك لأن كلا من الملكية الخاصة والدولة، اللتين هما أكثر المؤسسات سيطرة في العالم المعاصر، يزيد من فقدان الحيوية التي يشكو العالم منها بشكل مضطرد. تتعلق هاتان المؤسستان ببعضهما تعلقا وثيقا، ولكن دراستي ستقتصر في الوقت الحاضر على الدولة، وإلى أي حد هي غير ضرورية وضارة، وسأبين كيف يمكن تخفيفها من دون إجراء أية خسارة في منافعها. ولكنني سوف أقدم اقتراحا يرمي إلى تمديد مهام الدولة في نواحٍ أخرى بدلا من تقصيرها.
يمكن أن تقوم بمهام الدولة التي تتعلق بالبريد والتعليم الابتدائي مؤسسات خاصة، ولكن الدولة تقوم بها بدافع من الملائمة. ولكن هناك أمور ثانية يتعذر أن نتصورها في أيد أخرى، ما دام هناك دولة، مثل القانون والبوليس والجيش والبحرية. يختلف الاشتراكي والفردي حول مهام الدولة غير الأساسية إذ يتمنى الاشتراكي تمديدها والفردي تقصيرها. يتفق الاشتراكيون والفرديون على بعض مهام الدولة الأساسية، وهذه هي الأمور التي أرغب في انتقادها لأن المهام غير الأساسية هي، بحد ذاتها، غير جديرة بالاعتراض.
إن الشيء الجوهري في الدولة هو كونها مصب قوى المواطنين مجتمعة. تأخذ هذه القوى شكلين: شكلا داخليا وشكلا خارجيا. يتمثل الشكل الداخلي بالقانون، والشكل الخارجي يتمثل بالمقدرة، التي تتجسد في الجيش والبحرية، على شن حرب ما. تتكون الدولة من جراء ضم قوى كل سكان منطقة معينة تحت إمرة حكومة ما. تستعمل الدولة المتحضرة القوى ضد مواطنيها وفقا لشروط يعينها القانون الجزائي. أما استخدام القوة ضد الغرباء فلا تضبطه أية أنظمة أو قواعد، بل يترك، باستثناء بعض الحالات الخاصة، إلى تقلبات المصلحة القومية أكانت هذه حقيقة أم وهمية.
ليس من شك في أن القوة التي تستخدم طبقا للقواعد والقانون هي أقل أذى من القوة التي تحركها الأهواء. فلو تسنى للقانون الدولي أن يسيطر على عواطف الولاء عند الناس سيطرة كافية في تنظيم العلاقات بين الدول، لأحرزنا تقدما كبيرا على وضعنا الحالي. الفوضى البدائية التي تسبق تشكيل القانون هي أسوأ من أسوأ القوانين. أنا أعتقد أن من السهل إيجاد منزلة تعلو على القانون، نتمتع فيها بذات المنافع التي يمكن ان نحصل عليها من خلال القانون ومن دون أية خسارة في الحرية ومن دون التعرض لذات المضمار التي يجعلها القانون أو البوليس محتمة. من المحتمل أن يكون وجود بعض قوى الاحتياط ضروريا ولكن استخدام القوة الفعلي يصبح نادرا كما تصبح درجة القوة المطلوبة ضئيلة. إن الفوضى التي تسبق القانون تعطي حرية إلى الرجل القوي فقط، ولكن الحرية التي نطمح إليها تجعل كل فرد تقريبا حرا. نستطيع تحقيق مثل هذه الحرية ليس بمحو وجود القوة المجهزة محوا كليا، بل بوضع أكبر حد ممكن لمناسبات استخدامها.
يحد سلطة الدولة داخليا الخوف من الانقلاب وخارجيا الخوف من الانهزام في الحرب. وإذا صرف النظر عن هذه المخاوف، فسلطة الدولة مطلقة. يمكن أن تستولي الدولة في الواقع من خلال الضرائب على ممتلكات الناس، كما يمكنها أن تحدد قانون الزواج والميراث، وأن تعاقب التعبير عن الآراء التي لا تعجبها، وأن تنكل بمن يطالب بضم مقاطعته إلى دولة أخرى، وأن تأمر كل ذكر ذي بنية سليمة بالسير إلى الحرب كلما وجدت أن شن الحرب هو في صالحها. وفي نواحٍ أخرى متعددة تعتبر مخالفة أهداف الدولة وآرائها جريمة. لربما كانت أميركا وبريطانيا قبل الحرب أكثر دول العالم تمتعا بالحرية، ولكن حتى في أميركا لا يسمح لأي مهاجر أن يطأ أرضها قبل أن يعترف بعدم إيمانه بالفوضوية السياسية وتعدد الأزواج، بينما كان الناس في إنكلترا في السنوات الأخيرة يزجون في السجون لمجرد إعلانهم عن مخالفتهم للديانة المسيحية[2]، أو لموافقتهم لتعاليم المسيح[3]. يعتبر كل انتقاد للسياسة الخارجية عملا إجراميا. فإذا رغبت الأكثرية، أو أصحاب السلطة الفعلية، في شيء ما، كان من المفترض أن كل من لا يرغب في ذلك الشيء تعرض لأشنع أنواع العذابات والعقوبات مثل العذابات والعقوبات التي تعرض لها الهراطقة[4] في الماضي. إن مدى الطغيان الذي يطبق في هذه الحالة يتوقف على مدى نجاحه. قليل من الناس يحجم عن فتح باب الاضطهاد عندما يتأكد أنه سيكون اضطهادا ساحقا.
خدمة العلم الإلزامية ربما هي المثل الأقصى عن قوة الدولة والشاهد الأول عن الفرق بين نظرتها إلى مواطنيها ومواطني الدول الأخرى. تجازي الدولة بصرامة تامة كل من يقتل مواطنيه وكل من يرفض قتل مواطني الدول الأخرى. وبوجه عام يعتبر الوضع الأخير جريمة أسوأ. إن الحرب ظاهرة مألوفة ويفشل الناس في ملاحظة غرابتها، إنها في الواقع تبدو لِمن يعيش طبقا لغرائزه الحربية طبيعية ومعقولة، أما من يأبى أن يعيش وفقا لتلك الغرائز، فيجد استغرابه للحرب ينمو بشكل مألوف تماما. من المدهش كيف تتساهل أكثرية الناس بوجود نظام يجبرهم على الخضوع لأهوال المعركة في أية لحظة تشاؤها حكوماتهم. يجد الفنان الفرنسي غير العابئ بالسياسة والمنكب على لوحاته فقط، نفسه فجأة مدعوا لقتل الألمان الذين هم، كما يؤكد له رفاقه، سخطة على الجنس البشري كله. وكذلك يجد الموسيقي الألماني نفسه مدعوا لقتل الفرنسي الخداع. فلماذا لا يستطيع الاثنان أن يتركا الحرب إلى أولئك الذين يهوونها ويشهرونها؟ والفظاعة في الأمر أنه إذا أعلن الفنانان حيادهما، قتلهما على الفور بقية المواطنين: أما إذا حاولا التخلص من هذا المصير، أرغما على قتل أحدهما الآخر. فإذا خسر العالم الفنان وبقي الموسيقي حيا فرحت ألمانيا أما إذا خسر العالم الموسيقي وليس الفنان، ابتهجت فرنسا. ولكن لا أحد يفتكر أن خسارة الحضارة متساوية أيهما قتل.
إن سياسة كهذه هي سياسة “بدلامية”[5] جنوبية. فلو سمح للفنان وللموسيقي بأن يتجنبا الحرب، لحصدت البشرية خيرا كليا. إن سلطة دولة، تجعل ذلك التجنب مستحيلا، هي شر كلها كسلطة الكنيسة حينما كانت تدفع الناس إلى الجحيم لمجرد أن أفكارهم غير مستقيمة. لو نشأت في أيام السلم منظمة دولية تمثل فيها الألمان والفرنسيون بأعداد متساوية وأقسموا على أن لا يشتركوا في الحرب، لوجدت تلك المنظمة اضطهادا متساويا من كلا الدولتين: الفرنسية والألمانية. يطيع المواطنون المعاصرون بلدانهم الديمقراطية طاعة عمياء ويظهرون رغبة غير محدودة في القتل والاضطهاد، كما كان يفعل تماما جيش الانكشارية عند السلاطنة العثمانيين والعملاء السريون عند الطغاة الشرقيين[6].
يمكن أن تؤثر سلطة الدولة ليس من خلال القانون فقط، بل من خلال الرأي العام أيضا، كما هي الحال في إنكلترا. تكون الدولة، بواسطة الخطابة والصحافة، الرأي العام تكوينا شبه تام. والرأي القاسي هو عدو الحرية، وعداوته ليست بأٌقل وطأة من عداوة القوانين المجحفة. إذا وجد الفتى الذي يرفض أن يذهب إلى الحرب، نفسه مصروفا من عمله، مهانا في وسط الشوارع، متجنبا من رفاقه ومزدرى من صاحبته، فسيشعر أن العقاب صعب الاحتمال صعوبة الحكم بالإعدام[7]. لا يتطلب المجتمع الحر حرية قانونية قط، بل كذلك رأي عام متساهل وغياب ذاك التدخل الغريزي في شؤون جيراننا الذي يتيح المجال، تحت ستار المحافظة على وضع خلقي عال، أمام أناس حسني النية لكي يشبعوا، بلا وعي منهم، ميلهم إلى القسوة والاضطهاد. ليس اتهام الآخرين بالسوء بحد ذاته سببا لأن نظن الخير في أنفسنا. ولطالما تبقى هذه الحقيقة غير مفهومة، ولطالما تقدر الدولة أن تكون الرأي العام باستثناء بعض الحالات حيث تكون الدولة ثورية، فمن الضروري أن يحسب الرأي العام كأنه جزء مما يؤلف سلطة الدولة.
تستمد الدولة، على الأرجح، سلطتها في خارج حدودها من الحرب أو التهديد بالحرب. تستطيع أيضا فرض سطوتها خارجيا من خلال قدرتها على إقناع مواطنيها بإعطاء قروض إلى البلدان الأخرى أم لا، ولكن هذه السطوة لا تعتبر شيئا مهما إذا ما قيست بقوتها المستمدة من الجيوش والبحرية. إن أعمال الدولة الخارجية هي أنانية، فيما عدا بعض الحالات النادرة التي لا تستأهل أن تذكر. تحد في بعض الأحيان الحاجة إلى الاحتفاظ بعلاقة طيبة مع الدول الأخرى من الأنانية، ولكن هذا التعديل يطرأ على الأساليب المستخدمة لتحقيق الأهداف وليس على الأهداف ذاتها. الأهداف المبتغاة، بصرف النظر عن الحاجة إلى الدفاع عن النفس في وجه الدول الأخرى، هي مناسبات للاستثمار الفعال للدول الضعيفة أو غير المتحضرة من ناحية، ولتضخيم العز والسيادة التي تعتبر شيئا أكثر مجدا وأكثر تعاليا من الأموال، من ناحية أخرى. لا تتوانى أي دولة في سبيل تحقيق هذه الأهداف عن قتل العديد من الأجانب الذين لا تتناسب سعادتهم مع الاستعمار والخضوع أو عن تخريب المقاطعات التي يظن أن من الضروري أن يصيبها الهلع. ارتكبت هذه الفظائع كل الدول الكبيرة وبعض الدول الصغيرة، ما عدا النمسا التي لا تنقصها الإرادة وإنما المناسبة خلال السنوات العشرين الماضية باستثناء الحرب الحاضرة[8].
لماذا يرضخ الناس لسلطة الدولة؟ هناك أسباب متعددة يعود بعضها إلى التقليد وبعضها الآخر يرجع إلى أشياء حاضرة وحرجة جدا.
السبب التقليدي لطاعة الدولة هو الخضوع الشخصي للسلطان أو الحاكم. نمت الدول الأوروبية على مخلفات النظام الإقطاعي إذ أن أراضيها كانت مقاطعات يمتلكها سادة الإقطاع. اندثر مصدر هذه الطاعة التقليدية وربما لم يبق له وجود إلا في اليابان وإلى درجة ما في روسيا.
لكن لا يزال الإحساس القبلي، أو العصبية، الذي كان دائما أساس طاعة الحاكم، قويا وهو يشكل الآن الدعامة الأولى لسلطة الدولة. يجد كل إنسان تقريبا أن من الضروري لشعوره بالسعادة أن يكون عضوا في جماعة تحركها صداقات وعداءات مشتركة وتتلاحم سوية في الدفاع وفي الهجوم. ولكن هناك نوعان من هذه الجماعات التي هي مكبرات عن العائلة، والجماعات التي تبنى على هدف مشترك مدروس. ترجع الأمم إلى الفئة الأولى والكنائس إلى الفئة الثانية. فعندما تهيج الناس عقائد دينية، فغالبا ما تتبخر الفوارق القومية، كما حصل في الحروب الدينية بعد حركة الإصلاح. في هذه الحالة تصبح العقيدة الدينية رابطا أقوى من الوطنية المشتركة. مع قدوم الاشتراكية إلى العالم المعاصر، حصل وضع كهذا، ولكن إلى درجة أقل. ففي الناس الذين لا يؤمنون بالملكية الخاصة بل يشعرون أن الرأسمالي هو عدوهم الحقيقي رابطة تعلو على الفوارق القومية. لم يظهر بعد ما إذا كانت تلك الرابطة هي من القوة بحيث تستطيع مقاومة الميول التي تغذي الحرب الحاضرة، ولكن ما ظهر منها يدل على أنها جعلت ميول الاشتراكيين إلى الحرب أقل حدة من غيرهم وبهذا أحيت الأمل بإعادة بناء مجتمع أوروبي بعد انتهاء الحرب. لكن الرفض الشامل، بوجه عام، لكل العقائد الدينية ترك الشعور القبلي منتصرا والشعور القومي أقوى مما كان في أي حقبة من التاريخ. لقد أنِس بعض المسيحيين المخلصين والاشتراكيين الصادقين قوة في معتقداتهم، قادرة على مقاومة هجمات الشعور القومي ولكنهم كانوا قلة ضئيلة لم تستطع تغيير مجرى الحوادث أو تسبيب قلق فعلي للحكومات.