سيد درويش يلقي بياناً

سيد-درويش-800x400-580x290

لست من هواة حضور المناسبات، ولست ممن يقبلون الدعوات لحضور الأعراس وأعياد الميلاد واحتفالات “السبوع”، وكل تلك الأوقات التي أجد فيها الناس يحملون المشاعر المزيّفة إلى جوار الهدايا و”النُقطة”.

لا أحضر سوى المناسبات التي تخص أقرب الأصدقاء أو تلك التي تحمل قصة مثل قصة حب مليئة بالتحديات أفضت إلى زواج، أو “سبوع” أحد أبناء أولئك العشاق الأسطوريين، أو عيد ميلاد فتاة أحبها مثلاً.

ولكن هذه المرة جاءتني الدعوة بشكل غامض ومثير، بشكل لم أستطع رفضه، بل جاءت بطريقة محببة إلى نفسي وفي مكان من أقرب الأماكن لقلبي بين شتات الكرة الأرضية.

وكانت الصيغة كالتالي:

“العزيز مايكل أفندي، نظراً لمحبّتكم الغامرة التي وصلت إلينا من القلب إلى القلب، وحديثكم لكل قريب وبعيد عنّا وعن ما نال من روحكم الكريمة العشق والتقدير من نغمٍ وفن سعينا كثيراً لتقديمه بالصورة اللائقة.

ندعوكم نحن الشيخ سيد درويش البحر لحضور احتفاليّة يوم ميلادنا، وذلك في تمام الساعة الحادية عشرة من مساء يوم السابع عشر من مارس، وذلك في بيتنا القديم بمنطقة كوم الدكّة، الإسكندريّة، وبمجرد وصولكم وسؤالكم سيدلّك أي من أهل المنطقة على البيت تحديداً.

في انتظار تشريفكم، مع خالص محبّتنا”.

لم أصدق نفسي في اللحظة الأولى، وشرعت أبحث عن الصديق أو الصديقة صاحب أو صاحبة هذه المزحة، ولكنني قررت أن أعيش تلك الكذبة الجميلة التي قد أدفع نصف عمري كي أحياها في الواقع.

قطعت تذكرة القطار وركبت في عربته الأخيرة متجهاً إلى الإسكندريّة، طوال الطريق كانت أدوار الشيخ سيد في أذني وعيني على الطريق الذي رأيته بالأبيض والأسود منذ تحرك القطار وإلى أن وصلت إلى محطة مصر في الأسكندريّة.

غادرت المحطة وقدماي تتباريان في سباق إلى حارة سيد درويش بمنطقة كوم الدكّة، وبمجرد أن وصلت وجدت الزحام وتلاحم البشر فيما بينهم، لأجد من بينهم دليلاً إلى منزل الشيخ سيد.

دلّني أحدهم بإشارة منه إلى المنزل، وجدت الأبواب مفتوحة ودخلت وصعدت إلى الدور الأول لأجد الضجيج والضحك يملأن المكان، الدخان يحجب الوجوه، الموسيقى تذوب في ضجيج الضحك الثمل المتناثر في المكان إلى درجة جعلتني أتردد في قرار دخول الشقة الصغيرة الممتلئة بالبشر.

الجميع يرتدي ملابس قديمة جداً، بين الجلباب الصوف التقليدي والقميص والبنطلون والحمالات الرفيعة، إلى الطرابيش والمنشّات العاجزة عن إبعاد الدخان الكثيف الذي يمتلئ به المكان.

سرت بهدوء وخجل شديدين بين الناس أبحث في الوجوه لأجده في آخر المكان، مخموراً هزيلاً بشوشاً، بل ضاحكاً. كان يضحك بكُل ما أوتي من قوة وكأنه في سباق للضحك، وكانت ضحكاته العالية من ذلك النوع الخارج من القلب والذي ينتزع منك الضحكات الهيستيرية، فلم أتمالك نفسي وغرقت في ضحكات على غرار ضحكاته.

قام من جلسته قادماً نحوي مترنحاً بين ضيوفه الذين لم يسرق انتباههم ترنحه أو حتى مغادرته للجلسة، حيث كانت الجوقة مستمرة في العزف والضيوف مستمرين في الغناء والضحك، بينما يخترقهم مترنحاً وكاد يسقط أكثر من مرّة في طريقه إليّ، ووجدتني واقفاً في مكاني لا أتحرك من فرط الدهشة.

لم تكن دهشتي هي أنني في عام 2015 أجد أمامي الشيخ سيد درويش بهيئته التي غادر بها الحياة عام 1923، بل كانت دهشتي هي أنني تعاملت للحظات مع الموقف كأنه موقف طبيعي وكأنني مجرد أتيت لأقابل فناناً محبباً لقلبي لأول مرة.

ابتسم بمجرد رؤيتي وأتى إليّ ومد يده، فظننت أنه يصافحني، لكنه مد يده وجذبني من يدي بقوة وسار بي وسط رفاقه وركض إلى أن وصل إلى المنضدة التي وضع فوقها ما لذ وطاب من زجاجات وتبغ وخلافها، تجاهل وجود كل تلك الأشياء فوقها ووضع قدمه عليها وصعد أعلاها لتقع الزجاجات على الأرض، وتاه صوت ارتطامها بالأرض وسط الضجيج الذي ظل يخف تدريجياً إلى أن توقف تماماً بمجرد صعود الشيخ سيد فوق المنضدة ليقول لهم:

“يا سادة يا كرام، إليكم هذا البيان الهام، أولاً وقبل أي كلام، أهلاً بكم في هذا العام، عام 2015، حيث يذكرنا هؤلاء الرجال والنساء بكل خير، فقد تجاهلتنا أجيال، وتجاوزتنا بأميال، وأصبح التراب فوق ذكرانا جبال. أما اليوم ففي عيد ميلادي رقم 123، فقد أصبحت أدوارنا في آذان الملايين، بعد أن أتى جيلٌ يبحث في الماضي عما يشبهه، يبحث عن أصول الأشياء، وسلسال الدماء من الأجداد إلى الأبناء. فلهم منّا الحُب والامتنان من الآن وإلى أن ينقضي الزمان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”

ثم سقط من فوق المنضدة ليرجع إلى سباته العميق فوق أريكته وأعود أدراجي إلى زماننا حاملاً منه رسالة التقدير والثناء على من أضحكوا من لم يكمل عامه الثاني والثلاثين في عالمنا العجيب.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Ask AI to edit or generate...