على قمة جبل الريح
سمير عط الله
كان بترارك (القرن الرابع عشر) شاعر روما وشاعر فرنسا. طلب العلم في معاهدهما حيثما قطن. ووزع المعرفة والمشورة أنى طُلب إليه. ولما وجد أنه لا يملك من الوقت ما يكفي للكتابة، ذهب خارج المدينة واعتزل. لقد شعر دوما أنه أضاع الكثير من الوقت الثمين في شبابه. ولم تعوِّض عليه معرفته بأن الشباب، في كل مكان وزمان، يهدرون ذهبًا يدعى الوقت.
رغم كل ما حقق وهو بعد في الأربعين، أراد لنفسه تحديًا لم يحققه سواه. قرر أن يتسلق جبل فونتو (الرياحي) لكي يشاهد من على قمته كيف تبدو في الأسفل أراضي فرنسا وإسبانيا عند منطقة البيرينيه. ومن أجل هذه الرحلة الشاقة لم يجد رفيقًا سوى شقيقه. بدأ الاثنان الرحلة في الوعر والصخور ومعهما مرافقان. وبعد مسافة قليلة شاهدوا راعي أغنام، فسخر منهم: عودوا من حيث أتيتم، فهذا الجبل لا يؤتمن، وصخوره زلاَّقة محايدة.
شاعرنا لا يتراجع. أراد أن يرى تلك البقعة كما شاهد فيليب المقدوني، والد الإسكندر، جبال آثوس وكولومبوس في اليونان. لا يقول لنا بترارك كم يومًا استغرقت رحلة الصعود إلى ذروة جبل الريح. لكنه يصف المشاعر التي خامرته وهو يرى في البعيد كيف يتلوى نهر الرون متدفقًا بين الأودية، وكيف اصطفت، أو تفارقت، التلال المغمورة بالثلوج.
أمام هذا المنظر الطاغي، جلس يكتب رسالة إلى والده: أبتاه العزيز، غريب أمر هذا الإنسان، يطوف في الأرض معجبًا بأعالي الجبال، منبهرًا بأعالي الموج، صاغيًا إلى صوت المحيط، متأملاً حركة النجوم، لكنه لا يتوقف لكي يتطلع إلى نفسه وداخله. لماذا يرفض اللقاء مع ذاته القريبة؟ هل لأنه يخشاها؟ هل لأنه يخاف أن يفاجئه بعض ما فيها؟ ألا يدرك أن قمة هذا الجبل ليست شيئًا أمام الذرى التي يمكن أن يصل إليها فكره؟
أقامت إحدى جامعات أميركا قبل فترة سلسلة اختبارات حول مدى تحمل العزلة مع النفس. أخفق معظم الناس في تحمل هذه الخلوة المطلقة. خرجوا يستندون إلى كتاب أو تلفزيون أو رفيق أو صوت يخفق من صعوبة المواجهة. لقد تغير الكثير في الأرض لو أن هذا الكائن تقبل أن يلتفت مرة إلى نفسه بدل أن يقوم كل صباح إلى مواجهة سواه وتعداد أخطائهم وإحصاء هفواتهم. رحلة صغيرة قصيرة كل يوم إلى الداخل، إلى هذا المعرض الفظيع من المشاعر والنيات والنزوات. إلى هذا المنظار الذي لا نرى فيه سوى الغير، فنقرر أن نحاكمهم أو أن نعاقبهم، أو أن نلغيهم. دائمًا نحن على حق ودائمًا أهل الحقيقة وسوانا، عدو لا حق له حتى في الوجود. يحتاج العالم أجمع إلى رحلة إلى قمة فونتو، كي يرى الأشياء كما يجب.
رغم كل ما حقق وهو بعد في الأربعين، أراد لنفسه تحديًا لم يحققه سواه. قرر أن يتسلق جبل فونتو (الرياحي) لكي يشاهد من على قمته كيف تبدو في الأسفل أراضي فرنسا وإسبانيا عند منطقة البيرينيه. ومن أجل هذه الرحلة الشاقة لم يجد رفيقًا سوى شقيقه. بدأ الاثنان الرحلة في الوعر والصخور ومعهما مرافقان. وبعد مسافة قليلة شاهدوا راعي أغنام، فسخر منهم: عودوا من حيث أتيتم، فهذا الجبل لا يؤتمن، وصخوره زلاَّقة محايدة.
شاعرنا لا يتراجع. أراد أن يرى تلك البقعة كما شاهد فيليب المقدوني، والد الإسكندر، جبال آثوس وكولومبوس في اليونان. لا يقول لنا بترارك كم يومًا استغرقت رحلة الصعود إلى ذروة جبل الريح. لكنه يصف المشاعر التي خامرته وهو يرى في البعيد كيف يتلوى نهر الرون متدفقًا بين الأودية، وكيف اصطفت، أو تفارقت، التلال المغمورة بالثلوج.
أمام هذا المنظر الطاغي، جلس يكتب رسالة إلى والده: أبتاه العزيز، غريب أمر هذا الإنسان، يطوف في الأرض معجبًا بأعالي الجبال، منبهرًا بأعالي الموج، صاغيًا إلى صوت المحيط، متأملاً حركة النجوم، لكنه لا يتوقف لكي يتطلع إلى نفسه وداخله. لماذا يرفض اللقاء مع ذاته القريبة؟ هل لأنه يخشاها؟ هل لأنه يخاف أن يفاجئه بعض ما فيها؟ ألا يدرك أن قمة هذا الجبل ليست شيئًا أمام الذرى التي يمكن أن يصل إليها فكره؟
أقامت إحدى جامعات أميركا قبل فترة سلسلة اختبارات حول مدى تحمل العزلة مع النفس. أخفق معظم الناس في تحمل هذه الخلوة المطلقة. خرجوا يستندون إلى كتاب أو تلفزيون أو رفيق أو صوت يخفق من صعوبة المواجهة. لقد تغير الكثير في الأرض لو أن هذا الكائن تقبل أن يلتفت مرة إلى نفسه بدل أن يقوم كل صباح إلى مواجهة سواه وتعداد أخطائهم وإحصاء هفواتهم. رحلة صغيرة قصيرة كل يوم إلى الداخل، إلى هذا المعرض الفظيع من المشاعر والنيات والنزوات. إلى هذا المنظار الذي لا نرى فيه سوى الغير، فنقرر أن نحاكمهم أو أن نعاقبهم، أو أن نلغيهم. دائمًا نحن على حق ودائمًا أهل الحقيقة وسوانا، عدو لا حق له حتى في الوجود. يحتاج العالم أجمع إلى رحلة إلى قمة فونتو، كي يرى الأشياء كما يجب.