قلب الأسد.. انتصار جديد للمخابرات بعد الإيقاع بالجاسوس الإسرائيلي في قصر الرئاسة
«استعد يا علي الريس جي».. بخطوات واثقة دخل الرئيس أنور السادات غرفة الماساج في القصر الجمهوري تعلو وجهه ابتسامة مصبحًا على مدلكه الخاص «صباح الخير يا علي»، ليرد عليه المدلك، على العطفي: «صباح النور يا ريس».
«استعد يا علي الريس جي».. بخطوات واثقة دخل الرئيس أنور السادات غرفة الماساج في القصر الجمهوري تعلو وجهه ابتسامة مصبحًا على مدلكه الخاص «صباح الخير يا علي»، ليرد عليه المدلك، على العطفي: «صباح النور يا ريس».
استلقى الرئيس أمام «العطفي» واسترخى بينما بدأ المدلك في عمله، يتبادل الحديث مع «السادات» عن أحوال البلد والمواطنين. كانت المدلك ماهر في عمله، يريح أعصاب الرئيس ويرخي عضلاته التي أرهقت من الأعمال الشاقة في الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، إلا أن ما لم يكن يدركه صاحب نصر أكتوبر أن نفس تلك اليد كانت منذ ساعات تكتب رسائل بالحبر السري موجهة إلى العدو.. إسرائيل.
احتفت عائلة «خليل العطفي» بحي السيدة زينب بمولد ابنا جديدا، أطلقوا عليه اسم «علي»، عام 1922، ومرت السنوات وكبر الصبي الصغير والتحق بالمدرسة، إلا أن المرحلة الدراسية لم تستمر لأبعد من الشهادة الإعدادية، حسب رواية الباحث في الشؤون الامنية والاستراتيجية، د. سمير محمود قديح، في بحثه الذي نشر في جريدة «الراكوبة» السودانية، لينتهي المطاف بـ«علي» وسط جراكن الزيتون وقوالب الجبن، صبيا لأحد البقالين، إلا أن هذا الأمر لم يستمر كذلك، لينتقل للعمل بأحد الأفران، ومنه إلى عامل بصيدلية، قبل أن يصبح في النهاية مدلكًا، تلك المهنة التي لم يعرفها سوى الأرستقراطيين في ذلك الوقت.
عقود مرت على نجل خليل العطفي ولم يصل لشيء في دنياه بعد، وها هو قد وصل لعمر الـ41، إلا أن الحظ ابتسم له أخيرًا، فقد كان قدم على طلب للسفر إلى الولايات المتحدة، وتم الموافقة على طلبه.
رحل «العطفي» إلى الولايات المتحدة، ومنها إلى هولندا. وفي أمستردام، تزوج ابن حي السيدة زينب من امرأة هولندية، ليحصل بعدها على الجنسية الهولندية، إلا أن أبرز ما قام به في «فينيسيا الشمال» لم يكن زواجه، بل البحث عن المال، وكان الطريق الذي اختاره الأربعيني معروف لكثير من سكان العاصمة، فلم يكن سوى طريق سفارة إسرائيل.
وقف «العطفي» أمام حارس أمن السفارة الإسرائيلية بأمستردام يحاول شرح طلبه بمقابلة أحد المسؤوليين، وأمام إلحاح المصري، وافق المسؤولون بالسفارة على مقابلته، وكانت المفاجأة هي أنه أتى لهم بعرض يصعب رفضه، فقد أتى يعرض نفسه للبيع جاسوسًا على بلاده.
لم يوافق الإسرائيليون على تجنيد المدلك سريعًا، بل طلبوا منه فترة للتفكير في الأمر، وبالفعل وضع الرجل تحت أعين الموساد لفترة، واكتشف فيها الصهاينة أن الرجل لا يعشق سوى المال، ولا ينتمي لوطن أو مبدأ، فاتخذ القرار بتجنيده.
مرت فترة، وعاد الرجل إلى مصر، وفي صباح يوم، رن الهاتف في منزل «العطفي»، ولم يكن على الجانب الآخر من الهاتف سوى أحد عملاء الموساد، الذي طلب منه السفر سريعًا إلى أمستردام، وبالفعل خطى الرجل خطواته على الأرض الهولندية بعد أربعة أيام دون معرفة حقيقية لسبب سفره، وفيما تجول في إحدى المتنزهات اصطدمت به فتاة، وفيما حاول مساعدتها قبل أن تقع، همست له بأن يقرأ ورقة دستها في جيب معطفه دون أن يشعر، فلم تكن الفتاة إلا عميلة من عملاء الإسرائيليين كذلك.
مضت عدة ساعات حين وقف «العطفي» في أحد الشوارع منتظرًا، ماذا ينتظر، لا يعلم، كل ما يعلمه أن الورقة التي وجدها في جيبه كتب فيها هذا العنوان وموعد اللقاء.. لقاء المجهول. جالت الأفكار برأس المدلك، أي شيء يخبئ لي هؤلاء الناس؟ هل يستحق الأمر هذه المخاطرة؟ أسئلة حاول أن يطردها من رأسه ورياح برد أوروبا القارس تضرب وجهه. «ماذا أملك كي أخسره؟ هي مقامرة إلا أن مكسبها كبير وكبير جدًا»، قال المدلك في نفسه، وراح ذهنه يتخيل كم الأموال والرفاهية التي يستطيع أن يعيش فيها بعد حياة صعيبة لعقود.
في ذات اللحظات، قطع توقف سيارة سوداء أمامه حبل أفكاره، وهلعه صرخة السائق أن يركب سريعًا، ليقفز دون تفكير في المقعد الخلفي ويغلق الباب وتنطلق السيارة مسرعة، أما بداخل السيارة فلم يكن سوى ذات الفتاة التي رآها صباحًا.
بخطوات قلقة تبع صبي البقال السابق عميلة الموساد داخل أحد المباني وحتى حجرة بدا أنها تحمل تجهيزات خاصة، وقف فيها شخص بملامح أقرب للمصرية ينظر له مبتسمًا، قبل أن يمد يده مصافحًا: «إيلي برجمان، ضابط الموساد المكلف بك، ولدت وعشت حتى بدايات شبابي في القاهرة، ثم هاجرت مع أسرتي إلى إسرائيل».
كان «برجمان» قد أعد برنامجا تدريبيا مكثفا لعميله الجديد، كما تفاوض مع «العطفي» مقابل عمله مع الجهاز الصهيوني، إلا أنه كان عليه أن يعبر أولى الاختبارات الحقيقية للتأكد من ولاءه للجهاز الاستخبراتي الإسرائيلي، جهاز كشف الكذب.
اجتاز عامل الفرن السابق جهاز كشف الكذب، وتدرب على يد ضابط الموساد على
الإرسال والاستقبال والشفرة والتصوير واستخدام الحبر السري، كما تم تأهيله نفسيًا للتعامل بصفته الجديدة داخل المجتمع المصري. وبداخل مبنى السفارة الإسرائيلية بأمستردام، تحول حامل الإعدادية إلى الدكتور على العطفي، المتخصص في العلاج الطبيعي، وكان التخصص حينها نادر في مصر.
وقامت خطة «برجمان» لزرع عميله في مصر على تمويل حملة دعاية كبيرة له، وإمداده بمساعدات علمية ومستحضرات حديثة، مع دعوته لمؤتمرات علمية دولية، لتصل سمعته لكبار رجال الدولة، وكان الهدف الأساسي هو الرئيس محمد أنور السادات، الذي كان معروفًا عنه حرصه على أن يكون ضمن طاقمه الطبي مدلكًا خاصًا، فكانت الخطة أن يصبح «العطفي» مدلك الرئيس الخاص، ما يعني أن يكون عميل الموساد داخل القصر الجمهوري، مطلعًا بشكل كامل على حياة الرئيس الشخصية. وراقت الفكرة لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي، وتم التصديق عليها وأطلق عليها اسم «المهمة المستحيلة».
عاد «العطفي» إلى القاهرة دون أن يدري طبيعة مهمته بعد، كل ما حصل عليه كان أدوات التجسس العادية من حبر سري وشفرة وأجهزة الإرسال والاستقبال وكاميرا دقيقة، فيما تكرر سفره إلى هولندا عدة مرات، خضع فيهم لتدريبات في كبرى المستشفيات على العلاج الطبيعي، حتى تحول إلى خبير بالفعل في مجال التدليك، ونجم تحدثت عنه صحف العالم ومصر، وانهالت عليه الدعوات لمحاضرات في جامعات العالم، ولم يكن كل هذا إلا جزءً من خطة «برجمان» للدعاية لعميله، حتى يلفت نظر الرئيس.
في ذات الوقت، افتتح أول معهد للعلاج الطبيعي في مصر، وتقلد «العطفي» منصب العميد، إلا أنه لم يستمر في منصبه طويلًا قبل أن يلفت أنظار رئاسة الجمهورية، التي تلقى منها مكالمة وهو بمكتبه بالمعهد تخبره أنه تم اختياره ليصبح عضوًا في الطاقم الطبي لرئيس الجمهورية، لتنجح خطة ضابط الموساد.
ومع مرور الوقت، تقرب الرجل أكثر وأكثر من «السادات» بل وكامل أفراد الأسرة، وبناءً على ذلك، زاد نفوذه وصلاحياته، وأصبح يمد الموساد بتفاصيل ما يحدث داخل القصر الجمهوري، إلا أن مع زيادة نفوذ دكتور العلاج الطبيعي، زاد أيضًا غروره، وبدأ في التخلي عن حذره، وبعد أن كان يلقي بخطاباته المكتوبة بالحبر السري في صناديق مختلفة، أصبح يستسهل الأمر ويلقي بجميع الخطابات في صندوق البريد الملاصق للمعهد أو النادي، وبعد أن كان يحرص على تزوير تأشيرات وأختام تبرر سفرياته المتعددة، أصبح لا يكترث كثيرًا.
وفي زيارته الأخيرة إلى أمستردام، قضى جنون العظمة عليه، حيث تخلى عن الحكمة والذكاء في لحظات قرر فيها أن يحكم غروره ويتوجه إلى السفارة الإسرائيلية سيرًا على الأقدام، لكن ما لم ينتبه إليه أو أنساه إياه هوسه بنفسه هو أنه أصبح شخصية شهيرة ووجه معروف، لترصده الأعين المصرية، ويتم تصويره بصحبة رجال مخابرات إسرائيليين، وجوههم معروفة للمخابرات المصرية، ليتسلم ملفه أحد أشهر رجال المخابرات المصرية في تاريخها، العميد محمد نسيم، أو المعروف بـ«نسيم قلب الأسد»، ذات الشخص الذي جسده الفنان نبيل الحلفاوي في مسلسل رأفت الهجان، تحت اسم «نديم هاشم».
وعرض الأمر على الرئيس «السادات»، حسب صحيفة «القدس»، الصادرة من القاهرة، وصدق حين علم بأن «قلب الأسد» هو الضابط الذي يتولى الملف، فيما أمر بإطلاعه على المستجدات أول بأول، قبل أن يصدر أوامر عليا بالقبض عليه.
وفي الـ23 من مارس، عام 1979، كانت منطقة الزمالك محاطة بسياج أمني سري، وأمام العمارة رقم 4 بشارع بهجت وقفت عدة سيارات سوداء خرج منها رجال بملابس مدنية يقودهم العميد محمد نسيم ذاته، ليصعدوا في هدوء إلى منزل عميد معهد العلاج الطبيعي، الذي كان ينتظر صحفي من مجلة «روز اليوسف»، أو هكذا أقنعه من هاتفه اليوم السابق من المخابرات المصرية، ليفاجأ «العطفي» بـ«قلب الأسد» يقف أمامه في وسط حجرة مكتبه ليتم القبض عليه.
وأحيل «العطفي» لمحكمة أمن الدولة العليا في القضية رقم 4 لسنة 1979، حيث صدر الحكم عليه بالإعدام شنقًا، إلا أن «السادات» تدخل ليخففه للأشغال الشاقة لمدة 15 سنة. وبعد صدور الحكم، تبرأ الابن الأكبر لـ«العطفي» من أبيه أمام الشعب المصري في إعلان مدفوع الأجر نشر في صحف عدة على مساحات كبيرة.
وبعد وفاة «السادات»، رفض الرئيس التالي حسني مبارك، عدة التماسات تقدم بها «العطفي» للإفراج عنه لظروف صحية.
وفي الأول من أبريل من عام 1990، لاقى الجاسوس وجه ربه، فيما رفضت أسرته استلام الجثة لتدفن في مقابر الصدقة.