كيف تصبح إعلاميا ناجحا

parzaa6354654-650x335

ميرنا الهلباوى (نقلا عن مجلة 7 أيام)

يوم 20 مارس الماضى تم الإعلان عن تعيين الصحفية كاثرين فينر رئيسًا لتحرير جريدة الجارديان الإنجليزية العريقة، خلال 194 عامًا كاملة من صدور هذه الجريدة، لم يتولَ هذا المنصب إلا الرجال.. كاثرين التى تبلغ من العمر 46 عامًا استطاعت أن تحظى بهذا المنصب بعد تاريخ طويل لها من العمل فى الجريدة التى انضمت لها وهى تبلغ من العمر 26 عامًا.
قبل هذا المنصب الرفيع كانت كاثرين ترأس رئيس تحرير الجارديان أستراليا والتى استطاعت أن تبدأها من الصفر، وأن تبنى مجموعة عمل صحفية كاملة استطاعت بها أن تثبت نفسها فى عالم الصحافة العالمية.. ما إن لمع نجمها حتى ترأست جريدة الجارديان أمريكا.. وبعد مرور عام واحد فقط استطاعت أن تفوز بمنصبها الجديد.
لماذا كاثرين دون غيرها؟ وما إمكاناتها الصحفية التى جعلتها مؤهلة لرئاسة واحدة من كبرى جرائد العالم وأكثرها عراقة؟ هذه الأسئلة يمكن الإجابة عنها بمنتهى السهولة عند إلقاء نظرة على خطاب ترشحها لانتخابات المنصب والتى عرضته على اللجنة المالكة للجريدة..
“أعزائى الزملاء..
جريدة الجارديان استطاعت أن تلحق بالمرحلة الأولى من ثورة الديجيتال الإلكترونية، أصبح لدينا قاعدة عريضة من القراء ولدينا حسٌ يجعل جريدتنا مختلفة وموثوقًا فيها فى وقت أصبحت فيه الثقة امتيازًا وشيئًا نادرًا.. لدينا كل ما يحلم به أى منظومة صحفية، سمعة رائعة ومجموعة من الصحفيين الممتازين. لكن على الرغم من كل هذا فإننا مازلنا نواجه تحديات كبيرة جدًا يجب مواجهتها باحترافية لضمان بقاء صحافة الجارديان فى ظل مستقبل مجهول.. يجب أن نخاطر وفقًا لخارطة طريق محددة تجعلنا نجدد دائمًا من أنفسنا ونواكب العالم..

التقارير والتقارير والتقارير
الأخبار العاجلة هى مهمتنا الأولية.. يجب بناء منظومتها عن طريق أسلوبين وهما الدقة والوضوح، أن نعطى القراء المعلومات التى يحتاجون إليها لفهم العالم من حولهم.. أن ندافع عن الحريات ونكشف الظلم.. يجب أن نتوصل لطرق جديدة لإيصال وحكى كل ما هو جديد بطريقة يستطيع أن يفهمها القراء ويستوعبوها مع حماية مصادرنا ومراسلينا فى كل مكان.

تغطية الأخبار التى يهتم بها القراء
يجب أن تكون تغطيتنا مهمة ودقيقة وشاملة لكل ما قد يهم ولو قارئًا واحدًا، من الثروة الاجتماعية لداعش.. من أزمة اليورو إلى الحروب السرية الحديثة، الثورات وغيرها.. كل ما يهم أى قارئ يجب وضعه فى الحسبان.

الغريزة الديجيتال
أصبحت التكنولوجيا الآن جزءًا لا يتجزأ من الصحافة.. يجب خلق علاقة قوية بين المحررين ومهندسى التكنولوجيا لكى يتطور منهما قصص صحفية بسهولة، ودعونا لا ننسى أن يتم ذلك عن طريق تسهيل على القراء إيجادنا فى كل مكان.

ملاحقة الشباب
أراه ضروريًا الآن أن تكون لنا قاعدة من القراء الشباب الذين يستخدمون العديد من التطبيقات الحديثة التى لم نسمع نحن عنها حتى الآن.. يجب أن نجدهم فى مكان يكونون فيه وليس فى الأماكن التى نريد أن يكونوا فيها.

احتضان المناقشات
جزء التعليقات المزود على مواقعنا هو من أكثر أجزاء الجريدة أهمية على الإطلاق، حيث تحتضن الكثير من المناقشات الجديّة بين القراء فى جميع الموضوعات التى نقوم بنشرها.. يجب أن نكون مكانًا مطمئنًا لمن يجاهدوا لكى يجدوا من يستمع لهم ويجب أن نفتح باب المناقشات لكل الأفكار حتى التى تختلف عن سياستنا التحريرية.

أن نصبح محبوبين
معظم القراء معجبون بنا.. لكنا لم نصل معهم إلى درجة الحب.. يجب أن يحب القراء كل أجزاء جريدتنا السياسة والأخبار والرياضة واللايف ستايل والمطبخ.

الشكل الجميل مهم
ليس مهما فقط أن تكون أخبارنا واضحة ودقيقة، بل يجب أن نقوم بإيصالها للقراء بشكل جميل يحبونه وهنا تأتى مهمة التصميم.. القراء يحبون الصور الواضحة الجميلة والفيديوهات ذات الجودة العالية وتصفح موقع الجريدة بسهولة.

الاعتزاز بنسختنا الورقية
يجب أن نضع استراتيجيات جديدة ومحددة لنسختنا الورقية من جريدة الجارديان، يجب أن نتخذ قراراتنا بشأن المطبوعة بشكل متوازن وتواصل حقيقى مع القراء، ويجب أن نكون مجموعة عمل ممتازة من أجل الاهتمام بنسختنا الورقية بشكل أكبر.

الوصول إلى العالمية
على الرغم من وجودنا فى أكثر من بلد فإننا للأسف لم نصل إلى العالمية المطلوبة من جريدة عريقة مثل جريدتنا، يجب أن نعمل على زيادة أعداد المراسلين فى كل مكان بالعالم، حتى الأماكن التى لا تهمنا من وجهة نظرنا كثيرًا، وتجب زيادة عدد مكاتبنا بالخارج، القراء لم يعودوا مهتمين بالأخبار المحلية فقط، فالعالم أصبح صغيرًا جدًا.

الاقتراب أكثر من القراء
يجب أن نضم قراءنا أكثر لمنظومتنا الصحفية وأن نجعلهم مشاركين فى صناعة الحدث وليسوا متفرجين ومستمعين فقط لنا، يجب تطوير طريقة ما لجعلهم أكثر تفاعلاً منا من خلال نشر قصص صحفية مهمة تحدث حولهم.

التوصل لصيغة تفاهم مع المعلنين
الإعلانات مهمة جدًا، وهى الضامن الأكبر لعائدنا المادى، ولكننا يجب أن نسطر سياساتنا وقواعدنا ومبادئنا بشكل حازم وقوى أمام المعلنين جميعًا.. يجب عليهم أن يعلموا أن احترامنا لهم يأتى من احترامنا لصحافتنا وقرائنا، يجب أن نحافظ دائمًا وأبدًا على استقلالنا الصحفى مهما تكن التحديات والصعوبات، وأن ندرك قيمة وعراقة الجارديان.

الاختلاف أساس النجاح
يجب أن نكون مجموعة من الصحفيين أصحاب الأفكار والأيديولوجيات والخلفيات المختلفة، يجب أن يجد كل قارئ أيًّا كانت أفكاره أفكارًا مماثلة له فى جريدتنا.
فى النهاية يجب أن تظل الجارديان كما عاهدناها دومًا، شجاعة واضحة دقيقة مفيدة وممتعة وتحترم قارئها وتحافظ وتحمى صحفييها.
كاثرين فينر
من الممكن والطبيعى جدًا أن تتخيل هذا الخطاب مجرد سرد ساذج فقط تريد كاثرين أن تجتاح به التصويت على تعيينها، ربما هذه الطريقة فى الوعود البرّاقة والخادعة هى ما اعتدنا عليه هنا فى مصر فى جميع المجالات وخاصة الصحافة، من الصعب أن تجد هنا شخصًا ثابتًا على أفكار ومبادئ واضحة لا تتغير.. لكن مع كاثرين فينر فالوضع مختلف تمامًا وهذا ما استطاعت إثباته بهذا الخطاب مقارنة بحديثها فى جامعة ملبورن فى أستراليا منذ عامين، فقد قالت كاثرين فى حديثها هناك إننا الآن فى عصر لم يعد هناك قراء بل أصبح الكل مفكرًا وصحفيًا وكاتبًا ومشاركًا فى الحدث.. ولهذا يجب احترام القارئ وعدم التعالى عليه وعدم إيصال إحساس له بأنك تعلم أكثر منه أو تفهم أكثر عنه، ففى الكثير من الأحيان يفهم القارئ أكثر من الصحفى.. وهذا ما احترمته كاثرين وضربت مثالاً بحادث تسرب الزيت فى خليج المكسيك فى أبريل 2010، لم يكن على صحفيي الجارديان وقتها بمن فيهم كاثرين فقط تغطية الحدث الذى يعلم تفاصيله الجميع، لهذا قررت كاثرين وقتها عمل نقاش مفتوح للقراء المهتمين بالبيئة لطرح حلول لتدارك الأزمة.. وكانت النتيجة رائعة! فقط شارك فى المناقشة الكثير من القراء العلماء والأطباء والبيولوجيين والذين توصلوا لحلول قامت كاثرين وقتها بجمعها فى ملف كامل وتسليمه لنواب البرلمان لدراسته!
لم تهتم كاثرين فقط بإشراك القراء.. بل احترمتهم واحترمت واجبها تجاه الشفافية فى توضيح الأخبار من أجلهم، فى يونيو الماضى عندما كانت كاثرين تترأس جريدة الجارديان أستراليا، أجرى صحفى حوارًا مع وزير هناك وقام بكتابة عنوان مثير، ولكنه لا يوحى بما قيل فعلاً فى الحوار.. وبعد شكوى الوزير من هذا العنوان قامت الجريدة فورًا بتعديله ونشر ملحوظة فى شكل اعتذار للقراء وللوزير.. لكنه لم يكتفِ بذلك بل قرر أن يصدر بيانًا رسميًا يكذّب فيه الجريدة ويطالبها بتعويض، كان رد فعل كاثرين وقتها رائعًا، فقد قامت بكتابة الأزمة بالتفصيل فى الجريدة وأوضحت فيها الخطوات التحريرية التى اتخذتها لاحتواء الأزمة ردًا على البيان الصادر من الوزارة، والذى أثار وقتها سخط القراء على الجريدة.. ما كان مذهلاً هو تفاعل القراء مع شفافية كاثرين وأكدوا احترامهم لها وتضامنهم معها فى تلك الأزمة.. الاعتراف بالخطأ والشفافية هما أول طرق النجاح!
لم تكن هذه هى سياسة كاثرين الوحيدة التى ضمنت لها النجاح والتألق، فحرصها الدائم على شكر المصادر وإرجاع الأخبار لمصادرها الحقيقة هو ما أكسبها احترام الجرائد والصحف الأخرى، تقول كاثرين إن الكذب وتدليس الحقائق من أجل كسب رصيد غير عادل لدى القراء سرعان ما سينقلب إلى كره لتلك الجريدة.. البحث الدائم عن زيادة “الترافيك” على الأخبار فى مقابل فقدان احترام المنظومة التى تعمل بها هو ما كرهته كاثرين وأصرت على إنهائه فى الجارديان..
الكل أصبح صحفيًا والكل أصبح يمارس الصحافة.. لكن ما هى مهنة الصحافة وما هو الصحفى كما تفكر كاثرين؟
“أن تظل شهورًا طويلة تتحدث مع مصدر واحد من أجل تغذية أكبر لقصتك الصحفية حتى تصبح أكثر مصداقية.. أن يكون لديك الحس والغريزة لتعلم أن هناك شيئًا خفيًّا فى قصة ما يجب كشفه.. أن تسأل أسئلة غير مريحة وتعصف بذهن الذى تحاوره.. أن تعلم كيفية استخلاص المعلومة التى تهمك من شاهد ما.. أن تعلم كيفية إيجاد معلومة ما والتوصل لها.. وأن تعلم ما تبحث عنه.. وأن تعلم الوقت المناسب لتحدى مسئول كبير.. أن تقرأ ما بين السطور فيما يقوله.. أن تتعلم الاختلاف مع من يخالفك الرأى بمنتهى الاحترام له.. أن تعلم الوقت المناسب لقصتك والوقت المناسب لنشرها.. أن تكون شجاعًا فى وجه الضغوط من سياسيين أو الشرطة أو صحف أخرى!”
ما قامت كاثرين فينر بسرده فى جميع المناسبات على مدار الأعوام السابقة إن دل على شىء فهو يدل على أنها ستكون قائدة لثورة فى عالم الصحافة، قد لا يهمك كثيرًا أن تقرأ سياستها التحريرية أو أفكارها التى ستقود بها الجريدة العريقة بداية من مايو المقبل، ولكن ما يجب أن يفهمه ويعلمه الجميع وأولهم القراء أن الإعلام والصحافة هو ما يشكل رأيك وتفكيرك وتوجهك واختلافك واتفاقك.. وهو ما يعود بنا لإلقاء نظرة بسيطة على واقع الصحافة المصرية حاليًا، فعلى الرغم من زيادة عدد الصحف والجرائد والمواقع الإخبارية فإن القراء دائمًا يظلّون آخر هم قادة الإعلام.. فكما أكدت كاثرين على ضرورة اختلاف وجهات النظر حتى فى المنظومة التحريرية الواحدة إلا أن إعلامنا يظلّ يحصرنا دائمًا وأبدًا فى اتجاه واحد ومهاجمة كل من تسول له نفسه بالاختلاف أو الاعتراض.. يهتم إعلامنا بعرض القصة، لكنه لا يهتم بعرض القصة بجميع جوانبها وأسرارها وخباياها ووضوحها أيضًا.. هذا التقرير أمامكم ليس فقط سرد لحالة استثنائية فى تاريخ الصحافة العالمية بتعيين أول امرأة لمنصب رئيس تحرير جريدة عريقة مثل الجارديان ولكنه أيضًا درس مهم يجب أن نلتفت له جميعًا فى منظومة الإعلام وأن نتخذه منهجًا وطريقًا.. فى تعيين الأفضل والأصلح وأيضًا فى احترام من يشكل نجاحنا وهم القراء من أجل أن نكتسب احترامنا لأنفسنا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Ask AI to edit or generate...