لماذا انقلب عبد الناصر على الاخوان
نشهد هذه الأيام صخبا نخبويا حول مسلسل تليفزيوني للكاتب المعروف وحيد حامد؛ ويدور الصخب حول حقيقة انتماء الزعيم جمال عبد الناصر لجماعة الإخوان المسلمين؛ وكيف أن المسلسل يعد محاولة لتزييف وعي المصريين بحقيقة جماعة الإخوان المسلمين .
ولعل تعبير “تزييف وعي المصرين” يكشف مدي هشاشة ثقة ذلك القطاع النخبوي في جماهير الشعب المصري وكيف أن تلك الجماهير التي كثيرا ما وصفتها تلك النخبة بالوعي والذكاء والثورية والصلابة والقدرة علي إنجاز ثورتي يناير 2011 ثم يونيو 2013 إنما هي في حقيقة أمرها جماهير ساذجة سذاجة مفرطة تعجزها عن معرفة مصلحتها وتعتمد علي التليفزيون في تشكيل وعيها. ولعله غني عن البيان أن ذلك التوجه النخبوي إنما يصيب أول ما يصيب شرعية ثورتي يناير ويونيو. ولعله من المناسب و الأمر كذلك أن نلقي نظرة سريعة علي طبيعة وتطور العلاقة بين السلطة والدين في بلادنا.
لقد اختار سعد زغلول شعار “الدين لله و الوطن للجميع” ليكون عنوانا لثورة المصريين الوطنية عام 1919؛ و رغم أن الأمة قد أجمعت و التفت حول هذا الشعار آنذاك؛ فلا بد لنا من التسليم بأنه قد طرأت علينا تغيرات فكرية وسياسية و اجتماعية بل ودولية جعلت من الضروري إعادة النظر فيما طرأ علي دلالة ذلك الشعار من تغيرات، بحيث أصبحنا حيال مواقف متعارضة حيال القبول بهذا الشعار و حيال تأويلاته أيضا.
لقد ظل ذلك الشعار فعالا منذ ثورة 1919 في ظل دولة مصرية لم تخل دساتيرها المتعاقبة –اللهم إلا دستور الجمهورية العربية المتحدة- من نص يشير إلي أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، ولم يبرز طيلة تلك السنوات تناقض بين شعار ثورة 1919 وبين تأويل «وسطي إسلامي» ارتضاه الشعب وعشنا جميعا في كنفه، إلي أن برز تناقض حاد بين نظام يوليو 1952 وجماعة الإخوان المسلمين؛ لقد طلب الإخوان المسلمون من ناصر المشاركة في السلطة وبأن ترجع إليهم سلطة يوليو قبل اتخاذها قراراتها؛ ولم يرفض ناصر تلك القرارات من حيث المبدأ، ولكنه تمسك باستقلالية قرارات مجلس الثورة رافضا بشكل قاطع أن تعرض قرارات مجلس الثورة علي جماعة الإخوان بزعم كفالة المرجعية الدينية الإسلامية لتلك القرارات؛ ووافق ناصر علي أن للإخوان الحق في المشاركة في الوزارة ولكن لمجلس قيادة الثورة الحق في اختيار من يعبرون عن اتجاه الإخوان المسلمين؛ والفارق بين الأمرين غني عن البيان.
وتدهورت العلاقات بين سلطة يوليو وجماعة الإخوان حتى بلغ التدهور غايته بمحاولة اغتيال عبد الناصر 26 أكتوبر 1954. ورغم تصاعد حدة الاتهامات المتبادلة سواء بالعلمانية والإلحاد أو بالإرهاب و العنف؛ ورغم تعرض أعضاء الجماعة لموجات من التعذيب، ورغم إقدام أعضاء الجماعة علي ممارسة أشكال من العنف، فإن شيئا من ذلك الصخب ينبغي ألا يحجب حقيقة أن كلا الطرفين كانا يتصارعان علي أرضية فكرية واحدة هي الأرضية الإسلامية: كلاهما يزايد علي الآخر معلنا أنه الممثل الشرعي للإسلام «الصحيح»، و لعل الأمر لم يختلف كثيرا من هذه الناحية حتى الآن.
لذلك مضي قادة يوليو يزايدون علي إسلامية جماعة الإخوان، فشهدت فترة حكم الرئيس عبد الناصر إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي (1954م)، وإنشاء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية (1960م) وإنشاء إذاعة القرآن الكريم (1964م) و إنشاء جامعة الأزهر (1961م) كما تزايدت أعداد المعاهد الأزهرية و المساجد من أحد عشر ألف مسجد قبل الثورة إلى واحد عشرين ألف مسجد عام 1970 ، أى أنه تم بناء ما يعادل عدد المساجد التى بنيت فى مصر منذ الفتح الإسلامي.
وأصبحنا منذ ذلك التاريخ وعلي المستوي الجماهيري حيال مجموعتين من المرجعيات الإسلامية: مجموعة “رسمية” تتمثل في مشيخة الأزهر، و مجمع البحوث الإسلامية، و دار الإفتاء؛ و مجموعة “غير رسمية” تتمثل في السلفيين و الإخوان المسلمين و ما عرف –بعد ذلك في عصر السادات- بالجماعات الإسلامية علي تنوعها.
لم يكن الرئيس محمد أنور السادات في حاجة لبذل جهد كبير ليكرس للدولة عنوانا جديدا هو “دولة العلم والإيمان”، وليعلن ذلك العنوان رسميا في كلمته أمام وفود مؤتمر علماء المسلمين في 14 سبتمبر 1972 داعيا لضرورة “ أن نستحضر كل مقومات عقيدتنا وتاريخنا ونضالنا وكفاحنا في أسلوب نعني به دولة العلم والإيمان”.
وتبدأ مسيرة جديدة يسقط فيها أنور السادات برصاص الجماعة الإسلامية، وتمضي سنوات مبارك، و أحداث ثورة يناير ثم حكم الإخوان ثم ثورة يونيو التي أطاحت بجماعة الإخوان المسلمين، و وما زال الصراع القديم قائما بين السلطة والتيارات الإسلامية حول من الذي يمثل الإسلام حقا؟ ومثل تلك الصراعات السياسية الفكرية التاريخية العميقة لا تحسمه قرارات تتخذ من ذلك الطرف أو ذاك؛ ولا توجهات أو توجيهات نخبة من هنا أو هناك؛ بل تحسمها إرادة جموع الشعب التي أثبتت وبحق وعبر تاريخها عمق توجهها الوسطي و نفورها من التطرف يمينا أو يسارا.
نشهد هذه الأيام صخبا نخبويا حول مسلسل تليفزيوني للكاتب المعروف وحيد حامد؛ ويدور الصخب حول حقيقة انتماء الزعيم جمال عبد الناصر لجماعة الإخوان المسلمين؛ وكيف أن المسلسل يعد محاولة لتزييف وعي المصريين بحقيقة جماعة الإخوان المسلمين .
ولعل تعبير “تزييف وعي المصرين” يكشف مدي هشاشة ثقة ذلك القطاع النخبوي في جماهير الشعب المصري وكيف أن تلك الجماهير التي كثيرا ما وصفتها تلك النخبة بالوعي والذكاء والثورية والصلابة والقدرة علي إنجاز ثورتي يناير 2011 ثم يونيو 2013 إنما هي في حقيقة أمرها جماهير ساذجة سذاجة مفرطة تعجزها عن معرفة مصلحتها وتعتمد علي التليفزيون في تشكيل وعيها. ولعله غني عن البيان أن ذلك التوجه النخبوي إنما يصيب أول ما يصيب شرعية ثورتي يناير ويونيو. ولعله من المناسب و الأمر كذلك أن نلقي نظرة سريعة علي طبيعة وتطور العلاقة بين السلطة والدين في بلادنا.
لقد اختار سعد زغلول شعار “الدين لله و الوطن للجميع” ليكون عنوانا لثورة المصريين الوطنية عام 1919؛ و رغم أن الأمة قد أجمعت و التفت حول هذا الشعار آنذاك؛ فلا بد لنا من التسليم بأنه قد طرأت علينا تغيرات فكرية وسياسية و اجتماعية بل ودولية جعلت من الضروري إعادة النظر فيما طرأ علي دلالة ذلك الشعار من تغيرات، بحيث أصبحنا حيال مواقف متعارضة حيال القبول بهذا الشعار و حيال تأويلاته أيضا.
لقد ظل ذلك الشعار فعالا منذ ثورة 1919 في ظل دولة مصرية لم تخل دساتيرها المتعاقبة –اللهم إلا دستور الجمهورية العربية المتحدة- من نص يشير إلي أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، ولم يبرز طيلة تلك السنوات تناقض بين شعار ثورة 1919 وبين تأويل «وسطي إسلامي» ارتضاه الشعب وعشنا جميعا في كنفه، إلي أن برز تناقض حاد بين نظام يوليو 1952 وجماعة الإخوان المسلمين؛ لقد طلب الإخوان المسلمون من ناصر المشاركة في السلطة وبأن ترجع إليهم سلطة يوليو قبل اتخاذها قراراتها؛ ولم يرفض ناصر تلك القرارات من حيث المبدأ، ولكنه تمسك باستقلالية قرارات مجلس الثورة رافضا بشكل قاطع أن تعرض قرارات مجلس الثورة علي جماعة الإخوان بزعم كفالة المرجعية الدينية الإسلامية لتلك القرارات؛ ووافق ناصر علي أن للإخوان الحق في المشاركة في الوزارة ولكن لمجلس قيادة الثورة الحق في اختيار من يعبرون عن اتجاه الإخوان المسلمين؛ والفارق بين الأمرين غني عن البيان.
وتدهورت العلاقات بين سلطة يوليو وجماعة الإخوان حتى بلغ التدهور غايته بمحاولة اغتيال عبد الناصر 26 أكتوبر 1954. ورغم تصاعد حدة الاتهامات المتبادلة سواء بالعلمانية والإلحاد أو بالإرهاب و العنف؛ ورغم تعرض أعضاء الجماعة لموجات من التعذيب، ورغم إقدام أعضاء الجماعة علي ممارسة أشكال من العنف، فإن شيئا من ذلك الصخب ينبغي ألا يحجب حقيقة أن كلا الطرفين كانا يتصارعان علي أرضية فكرية واحدة هي الأرضية الإسلامية: كلاهما يزايد علي الآخر معلنا أنه الممثل الشرعي للإسلام «الصحيح»، و لعل الأمر لم يختلف كثيرا من هذه الناحية حتى الآن.
لذلك مضي قادة يوليو يزايدون علي إسلامية جماعة الإخوان، فشهدت فترة حكم الرئيس عبد الناصر إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي (1954م)، وإنشاء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية (1960م) وإنشاء إذاعة القرآن الكريم (1964م) و إنشاء جامعة الأزهر (1961م) كما تزايدت أعداد المعاهد الأزهرية و المساجد من أحد عشر ألف مسجد قبل الثورة إلى واحد عشرين ألف مسجد عام 1970 ، أى أنه تم بناء ما يعادل عدد المساجد التى بنيت فى مصر منذ الفتح الإسلامي.
وأصبحنا منذ ذلك التاريخ وعلي المستوي الجماهيري حيال مجموعتين من المرجعيات الإسلامية: مجموعة “رسمية” تتمثل في مشيخة الأزهر، و مجمع البحوث الإسلامية، و دار الإفتاء؛ و مجموعة “غير رسمية” تتمثل في السلفيين و الإخوان المسلمين و ما عرف –بعد ذلك في عصر السادات- بالجماعات الإسلامية علي تنوعها.
لم يكن الرئيس محمد أنور السادات في حاجة لبذل جهد كبير ليكرس للدولة عنوانا جديدا هو “دولة العلم والإيمان”، وليعلن ذلك العنوان رسميا في كلمته أمام وفود مؤتمر علماء المسلمين في 14 سبتمبر 1972 داعيا لضرورة “ أن نستحضر كل مقومات عقيدتنا وتاريخنا ونضالنا وكفاحنا في أسلوب نعني به دولة العلم والإيمان”.
وتبدأ مسيرة جديدة يسقط فيها أنور السادات برصاص الجماعة الإسلامية، وتمضي سنوات مبارك، و أحداث ثورة يناير ثم حكم الإخوان ثم ثورة يونيو التي أطاحت بجماعة الإخوان المسلمين، و وما زال الصراع القديم قائما بين السلطة والتيارات الإسلامية حول من الذي يمثل الإسلام حقا؟ ومثل تلك الصراعات السياسية الفكرية التاريخية العميقة لا تحسمه قرارات تتخذ من ذلك الطرف أو ذاك؛ ولا توجهات أو توجيهات نخبة من هنا أو هناك؛ بل تحسمها إرادة جموع الشعب التي أثبتت وبحق وعبر تاريخها عمق توجهها الوسطي و نفورها من التطرف يمينا أو يسارا.