ننشر مقال بلال فضل في نقد “نظامي السيسي ومبارك”

 

المصدر : العربي الجديد
طبعاً، كان لا بد أن يسخر حسني مبارك من ذلك الرجل الشجاع، وكيف لا يفعل، وقد جمع له “فاروقه حسني” يومها عدداً من كبار المثقفين في الحظيرة، متزلفين مهللين، أو حتى صامتين موالسين. وبدلا من أن يستغل هؤلاء تلك الفرصة في مواجهة مبارك بحقائق ما يدور في البلاد، قضوا وقتهم في الاستماع لهرائه، وهم يهزون رؤوسهم منبهرين مهللين، وحين جاء دورهم في الحديث، قالوا له كل شيء إلا الحقيقة. وحده الدكتور محمد السيد سعيد الذي قرر، يومها، أن يكون رجلاً حراً مستقلاً، وأن يجسد المعنى الحقيقي للمثقف، فحدّث مبارك بكل صراحة عن ضرورة البدء الفوري في إصلاح سياسي ودستوري، ينقذ البلاد من مصير مجهول ينتظرها، ولم ييأس عندما تجاهل مبارك ما قاله، بل أصر على أن يذهب إليه عقب الجلسة، ليسلمه أوراقاً تحمل مشروعاً، قال له إنه سيخرج البلاد من مواتها السياسي. كان يمكن لمبارك أن يأخذ منه الأوراق ويعطيها لمساعديه، ليضموها إلى ركام المشاريع التي أماتها، طوال سنوات حكمه المديدة، لكن مبارك اختار أن يضع بصمته الخاصة، فقال له بصلف الديكتاتور الذي استخف قومه فأطاعوه: “يا دكتور الأوراق دي تحطها..”، ثم سكت على طريقة استيفان روستي، وأضاف “في جيبك”، ليضحك مَن حوله معبرين عن انبهارهم بخفة ظل القائد وسرعة بديهته، من دون أن يدروا، هم وقائدهم المفدى، أن محمد السيد سعيد سينتصر حتى بعد رحيله، على حسني مبارك الذي لم تنفعه عنجهيته كثيراً، عندما أطاحه أحرار شعبه، وأحالوه من فرعون متطاوس إلى مخلوع بائس، يحاول ألاضيشه، حتى الآن، جاهدين غسيل سمعته الملوثة بدماء المصريين ودموعهم وفقرهم وأمراضهم، مع أنه كان يمكن أن يجنب نفسه وبلاده الكثير، لو كان، على سبيل المثال، تعامل مع أوراق ذلك المفكر المحترم بجدية، ولو قرر أن يدرسها، ويأخذ ولو ببعض ما فيها، بدلا من أن يكتفي بالاستماع، دائماً وأبداً، إلى أصوات المصفقين والمهللين والمطبلين. الآن، ومع الصدمات التي تتوالى، علينا، في كثير من مثقفينا الذين يتضح أن مشكلتهم لم تكن مع حكم الفرد، بل مع حكم الفرد الذي يستعين بأحد غيرهم في التبرير والتنظير، يظل الدكتور محمد السيد سعيد من الأسماء القليلة التي تمنحك الثقة في أنها كانت ستنجو من اختبارات الزمان المريرة، لتظل متسقةً مع مبادئها التي دفعت ثمنها غالياً، وهي ثقة ستجددها بإعادة قراءة كتابات الراحل الكبير، في ذكراه التي لا نحتفل بها دائماً كما يجب، مع أننا بحاجة ماسة إلى استعادة كتاباته، ليس فقط لإحياء ذكراه العطرة، وإنما لتساهم كتاباته، كما فعلت في حياته، في فضح ركام الأكاذيب التي يتم ترويجها، متخفية تحت أقنعة التحليل السياسي والوطنية الحقة والدولة القوية. لم أجد أفضل، ولا أجمل، نموذجاً لتلك الكتابات الرائعة من مقال (مشكلة مصر ليست السلطة وإنما معناها) نشرته صحيفة البديل التي كانت تشبهه وكان يشبهها، بتاريخ 21 سبتمبر/أيلول 2008، يبدو كأنه كتبه للتو واللحظة. يقول فيه: “لا يوجد حل للمحنة المصرية سوى وضع نهاية لهذا النظام السياسي المتقادم، فكما قلنا، لم يشغل التفكير في هندسة هذا النظام، ولا حتى دقائق من عقل مهندسيه، وإلا أدركوا كم يُعرِّض مصر للخطر، ويعرّض المجتمع للانهيار، ولا يزال هناك قبس ضئيل جداً من الأمل في تدارك قمة السلطة هذه الحقيقة، أما الأمل الحقيقي فهو أن يفرض المجتمع الواسع الحل السليم الوحيد لمعضلات تطور مصر السياسي. الحل السليم يكمن في الانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية، أو ما سميناه مراراً وتكراراً (دولة العدل والقانون)، ففي ظل هذه الدولة يجب أن تتمتع مختلف مؤسسات الدولة باستقلالية، وأن تقوم على التوازن فيما بينها، وفوق كل شيء، يجب أن تقوم على اختصاصات واضحة، يحددها الدستور والقانون، كما يجب أن تتوفر لها أنظمتها الداخلية التي تضمن استمراريتها واضطلاعها بوظائفها، من دون تدخلات شخصية، ولو من جانب أعلى سلطة في البلاد. وفي الدولة الديمقراطية، تتوفر للمؤسسات العسكرية والشرطية أطر قانونية، تحدد سلطاتها وتفويضها على نحو دقيق. وفي الوقت نفسه، يرعى هذا التفويض استمرارية المؤسسة، سلكاً له تقاليده وقوانينه ومواثيقه، أو تقاليده الخاصة، لكنها يجب، أيضاً، أن تخضع لسلطة مدنية، هي استمرار لسلطة الشعب التي يمنحها لحكومة تنتخبها بحرية، وما نزعمه أن هذا الحل الديمقراطي وحده الذي يضمن استمرارية الدولة والمجتمع، ففي ظل الغموض، يؤدي أي صراع، ولو غير مقصود، إلى نتائج وخيمة على أجهزة الدولة، وحتى وإن استمرت، بحكم ضعف المجتمع، فهي تتحول إلى سلطة معلقة، وسريعاً ما تصبح معزولة، فتصبح شيئاً أشبه بالاستعمار، أو جيتو أو معزل اجتماعي مهني، شبه عنصري. وعلى الرغم من أن الديمقراطية هي الحل الوحيد الممكن لإشكالية تقادم النظام السياسي واستبداده، وما أدى إليه من دمار المجتمع، فسوف تبقى ناقصةً، لسبب جوهري، فالديمقراطية نظام رائع، عندما يعمل بصورة جيدة. وواقع الأمر أنه يعمل بصورة جيدة عندما يتوافق مع نهوض حقيقي للمجتمع… وفي الوقت نفسه، فالديمقراطية يمكن أن تأتي بحكومة ذات اختيارات وتفضيلات معادية، أو غير مواتية للنهوض السريع. وعلينا ان نسوي هذا التناقض بصورة خلاقة، وأن نفتح مجالات واسعة للغاية، للتجربة وللتوافق الوطني على ضرورات بعينها. وكان المأمول أن نفكر في الحل السليم لهذه المعضلة، فمصر لا تستطيع أن تعيش طويلاً في الركود، وبمعدلات الأداء البائسة في الوقت الحالي، كما أنها لا تستطيع أن تعيش حقبة أطول من الاستبداد، من دون أن تنطفئ تماماً، ما بقي لها من خلايا حية. مصير مصر، إذن، معلق بالديمقراطية والنهضة معاً، وهذا ما يجب أن نفكر فيه، بدلاً من كلام عقيم عن كتلة قوة في دولة ومجتمع لم يعد يقوى على شيء”. رحم الله المثقف الحر الشجاع المستقل الجدع، الدكتور محمد السيد سعيد، وأعاننا جميعا على إدراك ما لا زلنا نعيشه من محنة، لن تحلها وصفات الماضي الاستبدادي التي كانت سبباً لهذه المحنة، ولن تكون أبداً علاجا لها، حتى لو توهمت الملايين ذلك، كما توهمته من قبل. (كتبت هذه السطور في رثاء محمد السيد سعيد قبل عامين. ومنذ ذلك الوقت، زادت المحنة المصرية اشتدادا، وزادت أيضاً حاجتنا إلى تأمل أفكار محمد السيد سعيد، عليه ألف رحمة ونور).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Ask AI to edit or generate...