السعادة والجدل بين المثقفين
تثير كلمة "السعادة" جدلا بين المثقفين في الشرق والغرب حول معانيها ومفاهيمها بما يختلف كثيرا عن مفاهيم وتصورات قد تتضمنها تقارير تصدر في مناسبات مثل ما يعرف "باليوم العالمي للسعادة".
وكانت النرويج قد حلت محل الدنمارك كأسعد بلاد العالم في تقرير نشر بمناسبة احتفال العالم الأول "الاثنين" باليوم العالمي للسعادة فيما اعتبر أن دول شمال أوروبا المعروفة بالدول الاسكندنافية هي الأكثر سعادة في العالم.
وإذ صدر "التقرير العالمي للسعادة لعام 2017" عن شبكة حلول التنمية المستدامة وهي مبادرة أطلقتها الأمم المتحدة عام 2012 فإن "السعادة" كمفهوم فلسفي وتعبير ثقافي قد تختلف عن المعايير الكمية الواضحة في مثل هذا التقرير بمؤشراته الرقمية كما أن الأمر قد "يصعب قياسه كميا" لأنه يتجاوز في تفاصيل وتعقيدات الواقع الإنساني مسألة الرخاء المادي التي بدت موضع اهتمام في هذا التقرير حتى مع التسليم بأهمية مثل هذه المسألة.
وعلى سبيل المثال ترى مثقفة نيجيرية تحظى كتاباتها باهتمام في الغرب وهي القاصة الشابة ايوبامي اديبايو صاحبة القصة الجديدة "ابق معي" إن السعادة قرار شخصي فيما قالت مؤخرا في مقابلة مع جريدة الجارديان البريطانية :"ينبغي أن نقرر بأنفسنا ولأنفسنا ما الذي تعنيه السعادة".
واعتبر جيفري ساكس مدير شبكة حلول التنمية المستدامة أن "الدول السعيدة هي التي يوجد بها توازن صحي بين الرخاء وفقا لمقاييسه التقليدية ورأس المال الاجتماعي مما يعني درجة عالية من الثقة في المجتمع" ودعا "لقياس السعادة" وفهم أسباب التراجع بينما استند هذا التقرير في ترتيب الدول لعوامل مثل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ومتوسط العمر.
غير أن ايوبامي اديبايو التي درست الكتابة الإبداعية تبدي آراء حول السعادة تختلف تماما مع المقاييس الكمية كما تختلف مثلا مع هؤلاء الذين يرون سواء في بلدها نيجيريا او في بلدان ذات ثقافات اخرى ان "الزواج السعيد لابد وان يقترن بانجاب اطفال".
وتقول القاصة النيجيرية لجريدة الجارديان :"هذه أفكار خطرة..فالبشر هم البشر وهم يستحقون الاحترام بصرف النظر عن مسألة مثل انجاب الأطفال" موضحة ان قصتها "ابق معي" تتعلق بهذا الموضوع وامكانية ان يعيش الزوجان "بسعادة حتى لو كتب عليهما عدم وجود اطفال".
كما أن مسألة الثراء المادي لا تعني دوما "السعادة" كما تؤكد هذه المثقفة الأفريقية المحلقة بأجنحة الإبداع في سماء الثقافة العالمية "فأن تكون غنيا لايعني بالضرورة ان تكون سعيدا" .
وإذا كان الآباء الثقافيون للمجتمع الأمريكى قد أكدوا في دستور الولايات المتحدة على حق المواطن الأمريكى فى "السعادة" فواقع الحال أن العديد من المفكرين و"الآباء الثقافيون المصريون" قد ركزوا على أهمية التفاؤل والأمل وحق المصرى فى "السعادة".
ومنذ عشرينيات القرن التاسع عشر تحدث أحد آباء الثقافة المصرية الحديثة وهو رفاعة الطهطاوى عن مصر التى يتمناها "كبيت لسعادة كل المصريين نبنيها بالحرية والعلم والمصنع".
وكان استحداث "وزارة للسعادة" في شهر فبراير من العام الماضي بدولة الإمارات العربية المتحدة موضع إشادة العديد من المثقفين العرب الذين أشادوا أيضا بمبادرة جديدة للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء وحاكم امارة دبي اعلن فيها عن مكافآة تصل إلى مليون درهم لمن قام في أي وطن عربي "بعمل يسعد هذه الأمة ويفتح أمامها باب الأمل".
وإذا كان هناك من يتحدث اليوم باستهجان عن "ثقافة الموبايل" معتبرا ان هذا التطور التقني في قلب ثورة الاتصالات أفضى لمزيد من الشعور الإنساني بالغربة وتآكل السعادة الحقة حتى أمسى "الانسان هو المحمول والموبايل هو حامله" فإن هذا الاستهجان يثير إشكالية "التقنية والسعادة".
والفيلسوف الألماني الكبير مارتن هيدجر أحد من اهتموا في الغرب بالعلاقة بين التكنولوجيا والسعادة فيما اعتبر أن مستحدثات التقنية افضت في الواقع لتأثير سلبي على سعادة الكائن الانساني بعد أن باتت "التكنولوجيا غاية في حد ذاتها وحولت إرادة الإنسان إلى وسيلة " مع أن المطلوب هو العكس!.
ومارتن هيدجر الذي قضى عام 1976 وكانت مشكلات الوجود والتقنية والحرية والحقيقة في صميم اهتماماته الفلسفية يرى أن الانبهار بالتكنولوجيا لن يحقق السعادة للكائن الإنساني مشيرا إلى أن الإنسان المعاصر أضحى خاضعا للهيمنة التكنولوجية بصورة يصفها "بالإذعان".
والطريف أن الكاتب الفرنسي مارسيل بروست الذي ولد في العاشر من يوليو عام 1871 وقضى في الثامن عشر من نوفمبر عام 1922 وترك للانسانية روايته الكبرى "البحث عن الزمن المفقود" كان يعتبر أن "السعادة مفيدة للجسد غير أن الأسى هو الكفيل بتنمية قدرات العقل الانساني".
ومن الطريف أيضا استخدام مصطلح مثل "ثمن السعادة" فى سياق الجدل الذى دار بين النخب الثقافية والسياسية الأمريكية بحثا عن الحل الأمثل للخروج من دوامة الأزمة المالية-الاقتصادية والتعامل بصورة أفضل مع تحديات السوق وحقائق ثورة المعلومات .
و"السعادة في الثقافة الغربية" موضع بحث أحيانا من مثقفين مصريين وعرب مع تركيز مطلوب على انعكاسات الثورة المعرفية والتقدم التقني وما يعرف "بأزمة المعنى".
وفي طرح بعنوان :"المصريون في اليوم العالمي للسعادة" قال صلاح سالم الكاتب الصحفي في جريدة الأهرام انه "مع تحطم صورة المكان والزمان اي الجغرافيا والتاريخ الموروثين من العالم القديم تولدت في العقل الغربي درجة أعمق من الثقة والجرأة وروح الاكتشاف والمبادرة" لافتا إلى "تنامي النظر إلى المجتمع باعتباره كيانا متغيرا ديناميكيا وليس كيانا ثابتا استاتيكيا وعندها غدت ضرورة النمو المستمر وارتقاء الكائن الاجتماعي من البديهيات".
وأضاف :"وهنا ولدت نزعة انسانية حديثة اسس عليها عصر التنوير ملامح المغامرة الكبرى لسيد الأرض الذي تمكن بعد كفاح تاريخي من التحكم في عالمه واستعادة السيطرة على مصيره غير أن تلك السيطرة التي كرستها الثورتان الصناعيتان الأولى والثانية سرعان ما بدت ظاهرية واهية بفعل الثورة الثالثة المعرفية وما انطوت عليه من تقدم تكنولوجي وتقسيم مفرط للعمل أدى تدريجيا إلى انكماش قدرة انسان على التحكم في عالمه ومن ثم شعوره بالقلق النفسي".
ويوضح هذا الكاتب المصري الذي يحلق بطروحاته في سماء الفكر الانساني ان أحد المظاهر الفجة لهذا الشعور بالقلق النفسي يتمثل في البحث عن الثراء بوهم أن المال يصلح بديلا للأمن النفسي "وهنا ينمو ما يطلق عليه في علم الاجتماع الغربي أزمة المعنى" وهي أزمة وجودية وتعني شعور الإنسان بالتعاسة والضياع رغم حصوله على مستويات معيشية لم تتحقق في أي مجتمع انساني من قبل.
وفي المقابل – كما يقول صلاح سالم – فإن العجز عن الإشباع المادي قد يكون سببا للتأزم الوجودي وغياب الابتسامة عن الوجوه أما الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة فقد لاحظ أنه في بعض الأحوال يلجأ الإنسان إلى بعض الحيل الساذجة:"أن يشتري شيئا كان يوما مصدر سعادة له..ويجد الشيء ولا يجد السعادة" !.
إنها محنة الانسان المعاصر الذي قد ينتسب الى ماينفيه بوهم البحث عن السعادة !..محنة الكائن الانساني الذي قد يضلل حتى نفسه ويتشوق الى ماليس منه وينتظر فاجئة الغيب!!..محنة انسان قد يجد كل شييء في عالمه المعاصر يحول بينه وبين نفسه !!.