إسلاميو تركيا… من الهامش إلى المركز
يقصد هنا بالانتقال من الهامش إل المركز أن الإسلاميين الأتراك، الذين أرادات لهم “الكمالية” البقاء بلا تأثير في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، قاوموا هذه الإرادة ولم يسلموا بها أو لها، ومع تآكل شرعية التحالف الذي أقامته الكمالية فإن تحالفا جديدا يمثله التيار الإسلامي والمتعاطفون معه قد تشكل وانتقل من التهميش إلى التأثير ومن الإزاحة إلى الفاعلية، وكما يقول كمال كربات “التحالف الاقتصادي والاجتماعي الذي قامت عليه الجمهوريه بدأ يتعرض للتفكيك، وظهرت قوى اجتماعية واقتصادية مناوئة للتحالف العلماني الجمهوري، كما أن الفساد والانتهازية والنهب وتغليب المصالح الشخصية انتشرت بشكل واسع بين فئات المنتفعين من التداخل بين شبكات حزب الشعب “الجمهوري” والدولة التركية. فأيديولوجية الحزب القائمة على فكرة منع الصراع بين الطبقات كان عليها إما أن تقضي على الظروف المنتجة للصراع أو التسليم بقبول التطور الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع ووضعه في الحسبان.
على المستوى الثقافي
مثل سعيد النورسي في مرحلته الثانية التي بدأت مع العام 1926 حال المثقف التركي الذي هالته التحولات التي عاشتها بلاده، ومن ثم فهو قد حدد مهمته في إنقاذ إيمان الناس والتأسيس لجيل يعرف الإسلام، في محاولة هدمه من جانب الهجمة الجديدة للكمالية عن طريق “رسائل النور”، وهناك الكثير من المثقفين الأتراك غادروا تركيا عقب الجمهورية لعدم قدرتهم على التكيف مع الأوضاع الجديدة بعد إعلان الجمهورية. ويمثل محمد عاكف أرصوي أحد النماذج التي هاجرت من تركيا إلى مصر، ولعبت دوراً كبيراً في نقل الفكر الإصلاحي المصري الذي مثله الشيخ محمد عبده إلى تركيا، وكما يقول فاروق تبليسي فإن محمد عاكف تأثر بالجانب التربوي عند محمد عبده أكثر من تأثره بالطابع الراديكالي لجمال الدين الأفغاني، وهو يعبر عن جيل اغتراب المثقف التركي في مطلع العشرينيات وما بعدها، كما يشاركه في ذلك سعيد النورسي.
بيد أن المثقف التركي انتقل من الاغتراب والتهميش تدريجيا إلى المركز، ففي الخمسينيات والستينيات ظهر بقوة تأثير جيل جديد عبر عنه نجيب فاضل الذي قاوم جوقه مثقفي الدولة بفكرته “الشرق الكبير”، وأعاد الاعتبارللتاريخ العثماني وللسلطان عبدالحميد والسلطان محمد وحيد الدين، فالتاريخ لا يبدأ مع الجمهورية ولكنه يعود إلى ما يقرب من ألف عام، هو تاريخ دخول الأتراك الإسلام، ووقف كثيرا أمام المحاكم العلمانية بتهمة التطاول على الكمالية وكتب “مشاهد من تركيا” عام 1968 و”الاشتراكية والشيوعية والإنسان”، وهو قد تحول من حياة العدمية إلى الإسلام عن طريق شيخ نقشبندي اسمه عبدالحكيم الأروسي، وأصدر مجلة “الشرق الكبير” التي تعد أطول المجلات عمرا في تاريخ تركيا.
في الستينيات من القرن الماضي – وما بعدها أيضا – ظهر سزائي قراقوج، الذي أسس مجلة “دلريش” (أي الإحياء)، ودعا إلى الدولة الإسلامية العالمية لمواجهة الاكتساح الغربي، وأسس دار نشر بعنوان مجلته نفسه، وأصدر أكثر من خمسة وخمسين كتاباً، وهو يعبر عما يمكن أن نطلق عليه “الإسلام الحضاري”، فهو يقول: كما كان عندنا في الحضارة الإسلامية إحياء لعلوم الدين في مواجهة النزعة الكلامية والفلسفية، فنحن في حاجة إلى إحياء علوم المدنية وروح الحضارة الإسلامية.
مع ظهور الجيل الجديد، أو الثالث من الحالة الإسلامية، ظهر مثقفون يعبرون عما أطلقنا عليه “المدرسة المؤسسية”، فهم لم يعودوا يعبرون عن “الدياسبورا” أو الاغتراب، وإنما يعبرون عن التجذر والوجود في مؤسسات الحكم والدولة والمؤسسات الثقافية والعلمية والوقفيات المختلفة، ومن هؤلاء: مهندس السياسة الخارجية التركية أحمد داوود أوغلو، وله كتابه الأشهر “العمق الاستراتيجي”، وهو أول شخص من خارج النخبة العلمانية يخترق وزارة الخارجية ليكون كبير مستشاري رئيس الوزراء بدرجة سفير؛ ثم ليصبح وزيرا للخارجية، ويرتبط المثقف التركي عادة بمؤسسة ذات طابع وقفي يعمل فيه كـ”خوجه” يعلم الطلبة كما كان الشأن بالنسبة لداوود أوغلو الذي كان يترأس وقف “العلوم والفنون”، وهناك مثقفون إسلاميون ينتمون لمؤسسات مثل “الموسوعة الإسلامية” وهي هيئة مستقلة ينفق عليها وقف تابع لرئاسة شؤون الديانة، ولها مبنى كبير وباحثون يعملون في التخصصات كافة، في التاريخ والفقه والشريعة وعلم الاجتماع الديني، وكما يقول جراهام فولر عن “مؤشرات الإحياء الإسلامي في تركيا”. يضاف إلى ذلك ظهور نخبة جديدة من المثقفين الإسلاميين تختلف طريقة عملهم عن طريقة عمل مثقفي سائر البلاد الإسلامية؛ حيث يتبع هؤلاء أسلوبا جديدا في طرح نظرة الإسلام للتاريخ والسياسة والاقتصاد والأخلاق والحكم من خلال كتب ذات لغة سهلة تخاطب أولئك الذين يبحثون عن جواب حول القضايا المذكورة.
على المستوى الاجتماعي:
يقول شريف ماردين (عالم الاجتماع التركي): إن مركز الثروة التي تجمعت في يد نخبة الدولة التقليدية، التي تم تنظيرها في قطار النوم أنقرة – إسطنبول، تتعرض لظهور نخبة جديدة من نمور الأناضول تطالب بكسر تركز الثروة في يد نخبة الدولة التقليدية تلك وتوزيعها خارج المدن الكبرى (أنقرة – إسطنبول) لتنال نخبة الأناضول التي كانت مهمشة دائما حتى مجيء تورجوت أوزال إلى السلطة نصيبها منها.
الجمهورية الثالثة
نحن الآن في الجمهورية الثالثة التي يقودها حزب “العدالة والتنمية”، وهي امتداد للجمهورية الثانية التي أرساها تورجوت أوزال، وفي دراسة قام بها بيناز طوبراق وعلي تشارك أوغلو تحت عنوان “الدين والمجتمع والسياسة في تركيا المتغيرة” والذي نشر 2006، كانت زيادة التدين إحدى النتائج التي رصدها هذا البحث، فمقارنة مع 1999 فإن نسبة الذين يعرفون أنفسهم كمسلمين زادت، ونسبة من يعرفون أنفسهم بالمتدين جداً قد زادت هي الأخرى، ومع هذه الزيادة زادت نسبة من يريدون أن تعمل السياسة على أساس ديني، ومن اللافت للنظر أن هذه النسبة انخفضت في عصر حكم العدالة والتنمية.
لقد بلغت التطورات الاجتماعية والاقتصادية في تركيا، منذ الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، والتي بلغت قرب اكتمالها في الثمانينيات والتسعينيات، تمام اكتمالها في مطلع الألفية الجديدة، ونقلت الكتلة المحافظة التي تربو نسبتها على 50% في المجتمع من الهامش إلى المركز، وبدأت تشارك بفاعليه وتشعر بأنها صاحبة الدولة، وجرى نوع من التداول التاريخي الاجتماعي، حيث انتقلت النخبة الغربية الكمالية التي كانت في المركز من قبل إلى الشعور بالتهميش وهي لا تقل عن 50% من المجتمع، وشعر من كانوا يقودون الدولة بالهمّ والقلق، وعلى الرغم من أنهم كتلة تصويتية أقل فإنهم ماايزالون مؤثرين في القطاعات المختلفة للدولة.
ما يتصل بالعالم العربي
السؤال في العالم العربي هو: كيف يمكن أخذ نظمنا السياسية ودولنا وحركاتنا الإسلامية ومجتمعاتنا؟ هذا يحتاج لتغير في إدراك وثقافة النخب الحاكمة والنخب الإسلامية معا، كما يحتاج إلى قناعة كل من الطرفين أن الحفاظ على الدولة والاجتماع البشري يتطلب توافقا وتنازلا وأخذ موازين التغير الاجتماعي على مدى الزمن في الحسبان، وتبقى الخبرة التركية حالة مهمة كانت مأخوذة في مصر مثلا بعد الثورة في اعتبار العسكريين حين حكموا وفي اعتبار الإخوان المسلمين حين حكموا، وهي مأخوذة في الاعتبار اليوم بعد عزل الرئيس الإسلامي وعودة العسكريين والليبراليين والعلمانيين عامة إلى الحكم، فهل مصر تقف اليوم حيث كانت تقف تركيا في مطلع الثمانينيات حين قام كنعان أفرين بانقلابه؟ وهل نحن أمام احتمال لتطور ومسار كالذي اجترحته تركيا، وهو ما قاد إلى التطورات التي تعيشها اليوم، والتي جاءت بحزب العدالة والتنمية إلى السلطة؟