web analytics

فى عزبة النخل البيوت”تمطر موت”

 

مع قدوم الشتاء، تزهو الحياة فى عيون معظم البشر، ينتظرون أجواءه المُمطرة والرومانسية، فيقصدون بيوتهم طلباً للدفء والسكنية، فيما تنقلب على الجانب الآخر حياة البعض رأساً على عقب، حيث يضطرون للعيشة فى ظروف قاسية، حتى إذا ما تسللت أشعة الشمس إلى «عششهم» وجففت آثار الأمطار، رفعوا أيديهم إلى السماء حامدين الله على ما آتاهم من فضله، ومع كل انتشار للغيوم يسكنهم الخوف، فإذا ما أمطرت السماء، بدأ بلاؤهم الحقيقى الذى يفزع نومهم، ويذهب دفئهم، ويهدد حياتهم.

أمطار رعدية، وهواء وسحب كثيفة، موجة سقيع، هى نُذر الشتاء يخبر الناس من خلالها بموعد قدومه، يتابعها البعض عبر النشرات الجوية، فيسرعون بتجهيز العتاد السنوى فى شرف استقباله، بداية من ملابس ثقيلة وبطاطين وحطب بقصد التدفئة، الأشياء ذاتها التى تعنى لقاطنى عشش عزبة النخل، حصناً منيعاً لحمايتهم من أمطار الشتاء التى تهبط عليهم عبر أسقف مهترئة، أو غير موجودة من الأساس، فيلجأون لبعض الحيل تعصمهم وأسرهم من مخاطر جو عاصف مثلج لا يرحم قلة حيلتهم.

«نجاة» كادت تموت صعقاً بسبب الأسلاك المكشوفة.. و«رسمية» باعت «دهب تحويشة العمر» من أجل جدران بلا سقف

فى مواجهة أبراج عثمان الشاهقة خلف مترو أنفاق عزبة النخل الغربية، تجد قرابة 40 أسرة تسكن 10 عشش متلاصقة، لا تفصلها سوى أمتار قليلة عن مشتل لبيع باقات الزهور، متناقضات مدفونة وسط كميات هائلة من مخلفات مصانع ورقية وأقطان، ومقلب قمامة كبير، لا ترى أعينهم سواها كل صباح، فتتسابق لوادر وسيارات ثقيلة فى نقل أوراق الكرتون والمشمع والبلاستيك، ليمر عدد منهم على سكان العشش مع قرب الشتاء، فيغروهم بمؤن البرد التى لا غنى عنها، مقابل 10 جنيهات للكيلو الواحد، تزدهر تجارتهم مع هطول الأمطار، خصوصاً إذا تطور الأمر إلى السيول، كل حسب حاجة الزبون، وطلبات منزل عم «أحمد الجزار»، النباش، الذى يعتبر موسم الشتاء فى عزبة النخل «خير وبركة»، يعيش خلاله مع أسرته فى رخاء، على أطلال منازل تبحث عن الدفء.

الكبار والصغار فى منطقة عشش عزبة النخل، يؤثرون التجهيز للشتاء مع نهاية شهر سبتمبر، فيضحون مهمومين بالشتاء طوال العام، أما باقى المشكلات داخل العشش تنتهى بمرور الوقت، فربما يحسبون ألف حساب لمخاطر انهيار السقف فوق رؤوسهم، باحثين بكل ما أوتوا من قوة عن طريقة لإلهاء القدر عن واقع مرير يهابون حدوثه.

فى عزبة النخل البيوت"تمطر موت"عشوائية لم تلتفت لها الحكومة ولم تحاول إنقاذ أهلها

بين طيّات ملابسها القديمة، فتشت عما يستر سقفها المكشوف، فلم تجد سوى بقايا قماش وعدد من قطع الإسفنج المتسخة، فعزت حالها بها، وقلبها يحدثها «أحسن ما نموت فى البرد»، فعادت تجمعها فى كيس بلاستيك كبير، وصعدت بها سلماً خشبياً، وبدأت فى سد الثغرات الواسعة فى سقفها الصاج، هذا ما تفعله «نجاة رشاد محمد» قبل كل شتاء، فتلك الحيلة تغنيها عن مُر سؤال أرباب عربات النباشة، الذين يستغلون حاجتهم للتدفئة، فيبيعون لهم الهواء فى زجاجات حسبماً وصفت، ويغرونهم بشراء البلاستيك و«المشمع» والكارتون المقوى، للوقاية من هجمات الصقيع القارس.

محاولات حثيثة، ورغم ذلك لم تفلح السيدة الثلاثينية فى صد زخات الأمطار التى بدت أقوى من إرادتها، فكل حيلها السابقة وقفت عاجزة أمام تسلل المياه من بين الثقوب الواسعة، حاولت معه ذات يوم الأسبوع الماضى، ربطها بأسلاك عارية بالقرب من جهاز التليفزيون الوحيد، فصعقت على الفور لتهوى على رأسها فى الأرض، قبل أن ينجدها ابناها، وينقلاها إلى المستشفى لإسعافها من موت محقق، قالت لـ«الوطن»: «الحادثة دى حصلت لى من أسبوع، الناس بتقول فيه مطرة جامدة، بدأت أدور فى هدومى القديمة زى كل سنة على قماش أسد بيه الفتحات، لكن الكهرباء صعقتنى، وربنا نجدنى علشان أربى العيال».

«أميرة» ورثت عن زوجها شهيد أكتوبر عشة و3 أبناء.. و«سيدة» تلجأ إلى «منشية الصدر» بصغيرها مريض القلب هرباً من البرد

«نجاة» قضت قرابة نصف عمرها داخل عشة صغيرة، تزيد بمرور الأعوام فرداً جديداً أو اثنين، فإما تنجب هى طفلاً، أو أشقاء زوجها الذين يشاركونها المكان، فيستقبلون أفواهاً جائعة تعد عليهم أنفاسهم، وصار المكان ضيقاً بما يكفى لمعيشة على الكفاف لزوج أرزقى، يؤمن حياة أسرته بعشة ورثها عن أبيه، وشقيقين له يشاركونه فيها، ليسوا أحسن حالاً منه، علاوة على أمهم العجوز و10 أحفاد لها، أضافت: «لو ظروفنا ثابتة مش هنقعد هنا، إحنا عايشين فى عشة من غير شبابيك ولا شمس ولا هواء، والعيال كل يوم عيانين، وغايبين من المدرسة».

كان يوماً عبوساً، وفقاً للحاجة «رسمية محمد شعبان»، عندما فرطت فى «شقا» عمرها من مصوغاتها الذهبية لشراء منزل داخل عشش عزبة النخل، وكانت وقتها تغرى كثيرين للقدوم والعيش فيها، لكن بمرور الوقت أضحى منزلها نكبة تزداد بؤساً عليها مع تقدم العمر، فالسيدة السبعينية تزوجت وربت الأولاد والأحفاد فى منزل دون سقف، وعاشت أعواماً طويلة تستقبل الشتاء بضيق فى «التنفس»، لا تطيق أمراضه التى تحل على جسدها الوهن، قالت: «بعت كردان وخلخال وغويشتين، وبدفع عوايد على الأرض كل شهر، اللى بنيت فوقها حتة البيت اللى كسر ضهرى، كل شتا أتلف بشال صوف، وملابس تقيلة، وولاد الحلال يساعدونى أشيل المياه قبل ما تغرق البيت فى عز ما أولادى سايبينى، نصهم سافر برة مصر، والنص التانى بيرجع آخر الليل مع عياله علشان يناموا». لا تقوى السيدة العجوز على صد هجمات البرد بمفردها، فتستعين بـ«جدعان» المنطقة الشعبية التى تتباهى أن لها الفضل فى تربيتهم فرداً فرداً، ومع الشتاء يحين أوان رد الجميل، فلا يقدر أحدهم على رد طلبها، فيجمع أوراق الكارتون من بين أكوام القمامة المحيطة بهم، محاولين سد الفجوات قدر المستطاع بما توفر لديهم من عتاد، بعد أن تشكو لهم حالها: «جالى ربو وحساسية فى الصدر من الميه اللى بتنزل علىّ وأنا نايمة، ومش معايا فلوس، أكشف عند الحكما كل يوم».

فى عزبة النخل البيوت"تمطر موت"العشش.. حياة تحت رحمة الموت

وعد يغيب ويتجدد كل فترة، تتلقاه الست «رسمية» من مسئولى محافظة القاهرة، فهم حسب قولها، ينصحونها كل فترة بالصبر والتروى «سنة ولا اتنين»، لحين استبدال عشتها المتواضعة بمنزل جديد بعيداً عن مخاطر الشارع، لتلحق هى وجيرانها بمن سبقوهم من شركاء البؤس، الذين باتوا أحسن حالاً منهم بعد انهيار كوبرى قديم على مقربة منهم، فقررت المحافظة منحهم بيوتاً فى مساكن الزكاة بالمرج القديمة، لحمايتهم من المخاطر، قالت: «كل شوية يوعدونا، ولا لازم بيوتنا تقع علشان المسئولين فى البلد يفتكرونا، كل شتا يقولوا هتستلموا شقق، يعزّ علىّ بيتى طبعاً بس أيام كتير بموت من البرد».

لم تنس «نوسة محمد كمال» الاطمئنان على أشقائها الـ6، قبل أن تخلد إلى نومها، محتفظة بنصيبها من العشة البالغة مساحتها 30 متراً، التى تحل وباقى أسرتها ضيوفاً عليها، لحين العثور على سكن يلائم حالتهم المادية المتعثرة، بعد أن باتوا فى الشارع عقب هدم عشتهم تحت أنقاض الإزالات العاجلة والجبرية قبل عام. اقتطعت الفتاة العشرينية مكاناً لوضع أريكة بالية، تنام عليها حتى بلوغ الشمس، فإذا لم تشعر بأشعتها يوماً، تدرك أن أمامها مهمة شاقة لـ«نزح» المياه التى خلفتها الأمطار الغزيرة، التى تغرق فى كل مرة أثاث عشتهم المتواضع، فتسرع فى إيقاظ إخوتها، قبل موعد الذهاب إلى المدرسة، كى لا تطالهم يد الشتاء الغاشمة.

«نوسة» كغيرها من عشرات الأسر المشردة، تلقى والدها -الذى يعمل فراشاً بإحدى المدارس الابتدائية- وعداً كغيره من المتضررين باستلام شقة فى أقرب فرصة، فانتقلت الأسرة إلى منازل الأقارب لحين الأجل الحكومى، بعد قضاء أيام طويلة فى العراء، وامتثلت الأسرة للقضاء والقدر بالعيش فى عشة العمة صاحبة الـ5 أطفال، لمراعاة قرب المسافة من محيط مدارس الأبناء، قالت: «نمنا فى الشارع كتير، ونصبنا خيم، والمحافظة لم تستجب، بيتنا القديم كان ساترنا برضو من التلطيم فى البيوت صحيح ماكانش فيه سقف بس على الأقل كان فيه حيطة بتدارينا». وباعتبارها الشقيقة الكبرى، أخذت «نوسة» على عاتقها حماية إخوتها من برد الشتاء، ورغم صغر سنها كانت أكثر حكمة فى مواجهة شروره، فصنعت قطعاً من البلاستيك متعدد الطبقات وأخذتها معها منذ هدم عشتهم القديمة لتستخدمها فى سد ثغرات سقف المشمع، أضافت: «أمى علمتنى طريقة كويسة علشان أسد بيها السقف لو وقع من غير ما تكون فى البيت، وعيال عمتى بيساعدونى فى تركيبه، بس برضو بينزل ميه علينا وإحنا نايمين».

«إيمان» ابنة الـ7 أعوام تحلم بالدفء ووالدتها تسحب الغطاء عنها كل ليلة لسد فجوات «السقف»

«إيمان»، فتاة صغيرة لا يمثل الشتاء بالنسبة لها السعادة، كما تسمع فى روايات زميلاتها بالمدرسة أو قصص الأطفال، التى تحكى عن التزحلق على مياه الأمطار أو ارتداء الملابس الشتوية المحببة، أو التنعم فى التكييف، أو حتى المدفئة، فالأجواء المرعبة التى تصاحب هذا التوقيت من كل عام، تركت انطباعاً بالغ السوء لدى الطفلة التى لم تتجاوز بعد 7 أعوام، تحدثت عن البرد بصوت مختنق: «الشتا وحش لأنه بيخلينى أنام متلجة، وماما بتشيل من علّى الغطا علشان تغطى السقف فوقنا»، الأم لا تخفى ألمها، حين تسحب الغطاء الذى يدفئ فلذة كبدها تاركة إياها دون ساتر، فتحرمها من البطانية الوحيدة بمنزلها لتسد فجوات السقف المكشوف. قالت والدتها غادة عبدالدايم: «قلبى بينفطر على بنتى طبعاً، لكن ما باليد حيلة، مش عايزة السقف يقع علينا تانى، بعد ما تسبب فى خرس بنتى الكبيرة، وكان هيموّت البنت الوسطانية».

فى عزبة النخل البيوت"تمطر موت"

تتذكر الأم الأربعينية ذلك اليوم جيداً، فتفاصيله الشتوية المرعبة التى بدأت مع هطول أمطار شديدة إلى حد سيول محفورة فى بالها، لا تغيب عنها برهة، تطاردها الوساوس والهواجس مع قدوم الشتاء، صاحب الذكريات التعيسة، فقد هوى السقف فوق رؤوس فتياتها الثلاث قبل 10 سنوات، فأصيبت إحداهن بالخرس من الصدمة، بعد أن أخرجها الجيران بأعجوبة من تحت الأنقاض، أصيبت الابنة الوسطى بجروح سطحية. تغفو عيناها بشق الأنفس عند انتشار أشعة الشمس على الأرض، محتضنة أبناءها الأربعة أسفل سرير يتوسط عشتها الصغيرة، بعد أن وضعت الأوانى المنزلية فوق السرير ليستقبل زخات الأمطار المنهمرة من السقف أو موجة الهواء العاصفة. هذه هى حيلة «نادية رشاد» التى لا تقطعها كل شتاء، وعلى الرغم من ذلك فالأمطار لا تقلقها، بقدر تهددها الزواحف والثعابين التى أودت بحياة معظم أطفال المنطقة.

فى عزبة النخل البيوت"تمطر موت"

قالت «نادية»: «الفئران والتعابين بتجرى علينا وإحنا نايمين، بخاف عيل من العيال يطلع عليه تعبان يقرصه، فبخدهم فى حضنى تحت السرير وأفضل صاحية طول الليل، لحد ما أوديهم المدرسة، وأرجع أنام».

عشتها الصغيرة لا ينقطع عنها صوت القرآن الكريم المنبعث من جهاز «كاسيت» قديم لا تملك سواه من جملة الأجهزة الكهربائية الضرورية فى كل منزل، فهو عندها خير حافظ وطارد للثعابين وكل أذى قد يمس أبناءها: «لما يطلع على تعبان بردد جملة روح الله يسهلك، إبعد عنى ببركة القرآن»، هكذا تتعامل الأم مع الزواحف، تقضى ليلها قلقة، متوترة، وساهرة، أما فى ساعات النهار فتحاول تهيئة عشتها لعودة الأولاد من مدارسهم، وإعداد الغداء فى ذات الأوانى المنزلية التى حصنتها وأسرتها قبل ليلة من الأمطار والزواحف: «كل أيام ربنا حلوة، بس مش قادرة أحب الشتا، لأنى مش بعرف أنام فيه من الخوف على عيالى».

سرير، وتليفزيون 14 بوصة، وطاولة خشبية ذات ثلاث أرجل فقط، هى كل محتويات عشة عزت محمد حسن، التى تزوج فيها وقضى طفولته وشبابه، وكانت سبباً فى ستر اثنتين من شقيقاته، فعاشوا داخلها ثلاث أسر، تضم 15 فرداً بخلاف الأب العجوز، والأم العاجزة عن الحركة.

يسدد الرجل للدولة مبلغ 50 جنيهاً شهرياً، كرسوم عائد استغلال الأرض المملوكة لها، كحق الانتفاع بها طيلة السنوات الماضية، قال: «إحنا يعتبر نايمين فى الشارع، مفيش سقف، ولا مياه ولا نور، بنستعمل حمام عمومى كلنا، الستات والناس الكبيرة فى السن بتقف بالساعات تستنى دورها، وساعات المياه بتقطع كمان».

يشرد «عزت»: «آه لو يرجع الزمن 9 شهور بس»، فالرجل الأربعينى، كان وقتها قد جمع أموالاً وفيرة من صناعة خيمات للمعتصمين فى الشارع من متضررى إزالة العشش قبل عام، حتى حصلوا على وحدات سكنية، بينما حرم هو وأسرته من حق استلامها، قال: «كنت بعمل خيم من ملاءات السرير والخيش وقماش الخيامية، وباخد 30 جنيها على الخيمة، وطلعت لى بقرشين حلوين اشتريت بيهم توك توك بشتغل عليه هنا فى المنطقة». ودعت «سعاد مصطفى» حياتها الريفية فى قريتها بالفيوم، مقبلة إلى القاهرة، بعد أن وافقت على زواجها من أول ابن حلال تقدم لها، ووعدها بالعيش فى القاهرة بالقرب من عمله، كـ«نفر باليومية»، فرحت وقتها بتحقيق حلم المعيشة فى القاهرة «أم الدنيا» عندها، تاركة وراءها أحلام الريف، ووالدين أوصاها بالرضا بالمقسوم، فاستسلمت لحياتها البائسة التى أثمرت عن 7 أبناء، خلال 22 عاماً، والثامن لا يزال فى أحشائها.

عاشت «سعاد» وعزوتها داخل غرفة 20 مترا بعشش عزبة النخل، محرومة من سقف يذود عنها المخاطر صيفاً أو شتاءً لتندم على قرارها لكن بعد فوات الأوان، قالت: «يا ريتنى قعدت فى بلدى، كنت ساكنة فى عشة برضو، بس على الأقل كان لها سقف».

فى عزبة النخل البيوت"تمطر موت"

قوتها البدنية لا تشير بأى حال إلى سنوات عمرها الستين التى تجاوزت نصفهم داخل عشش عزبة النخل، تزوجت وأنجبت هناك، وامتهنت بيع الأنابيب لتضحى «حفصة عبدالوهاب» أشهر سيدات المنطقة وأفقرهن أيضاً، فرغم قلة حيلتها لا تبخل بالجود بما لديها فى العشة لخدمة أهالى المنطقة، باعتبارهم شركاءها فى البؤس، فقبل حلول فصل الشتاء توزع عليهم أكياس النايلون والكراتين التى تجمعها صيفاً، إسهاماً منها فى تسقيف عششهم: «الجودة فى الموجود، الشتا صعب وحصيرة الصيف واسعة» قالتها وهى مبتسمة راضية.

المرض الذى حل على جسدها لم يمنعها من حمل أوانى المياه ونقلها للحمام العمومى بصفة يومية: «اللى بقدر عليه بعمله، وهى بحسب كل جيرانها الأم الروحية لهم، تحاول مساعدتهم بكل ما تملك، لأنها ذات تجارب مريرة، منها ابنها الأكبر الذى مات صعقاً بالكهرباء، بسبب ملامسته أحد الأسلاك المكشوفة خلال هطول المطر على عشتها فى أحد فصول الشتاء، فضلاً عن احتراق معظم أجهزتها الكهربائية فى شتاء آخر، لذا تحاول تجنيب أهل منطقتها ما حدث معها قبل 15 عاماً.

رحل عنها الزوج ورب أسرة قبل 41 عاماً، إثر استشهاده فى حرب أكتوبر، تاركاً وراءه إرثاً من الهموم، و3 أبناء و4 جدران دون سقف، وصورة فوتوغرافية له تتوسط العشة، فواصلت الليل بالنهار، حتى تخرج الأبناء فى الجامعة، وتقلد معظمهم وظائف مرموقة، ولم تعد السيدة الستينية بحاجة لمطلب فى الحياة سوى قضاء بقية سنوات عمرها داخل العشة التى تجمع ذكرياتها، لذا رفضت الاستسلام لمحاولات أولادها اصطحابها معهم، وآثرت البقاء حتى مع مخاطر سقف يهدم كل عام فوق رأسها، ومع حلول الشتاء تفكر ألف مرة فى قرارها: «لازم أمشى، مفيش حل فى مشكلة السقف خلاص».

تلقت «أميرة» وعوداً لا حصر لها بمنحها «سقفاً» لعشتها: «كل سنة يبلغونا هنجهز لكم أماكن بديلة، وهنسقّف لكم البيوت، مش عايزة مكان تانى بس نفسى يكون فيه مياه وكهربا طول السنة، وبحلم بسقف أسمنت زى خلق الله»، هذه كل أحلام الأرملة التى لا تجد إلا ألواح سريرها الخشبى، فتنتزعها لتحجب بها المطر، فيما تنام على الأرض حتى الصباح، أو انقطاع المطر».

لم تعد «سيدة رمضان» قادرة على تحمل أنين ووجع ابنها الوحيد ذى العامين ونصف العام، الذى ينتفض برداً، جراء أمطار الشتاء التى تغرق كل شىء حوله، وتجلد جسده الدقيق دون رحمة، لتدخل أمه فى نوبة بكاء، قبل النوم مغمضة عيناً وفاتحة الثانية، فى محاولة لتهدئة وجع الصغير: «ابنى مولود بروماتيزم فى القلب، لما يتعرض لنسمة هوا بيتوجع ومش معايا فلوس اشترى هدوم تقيلة، هما غيارين بغسل واحد ويلبس غيره، ده كل اللى حيلتى».

يشتد البرد عليها، ويقسو على من حولها، فيفزع ابنها «يوسف» من نومه، لتحتضنه، طارقة أبواب مستشفى منشية الصدر، متعللة بمرض ابنها للمبيت بين جدران أربعة وسقف حتى الصباح، «لو الدنيا مطرت، ودرجة حرارة يوسف ارتفعت أو اتوجع، بجرى على قسم الاستقبال فى المستشفى، وأنام فيه، ولو رفضوا يدخلونى، بضطر أشيل ابنى، وأمشى بيه كتير، رايح جاى لغاية ما يدفا وينام».

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
Ask AI to edit or generate...